حامية القيم الليبرالية، وقائدة المجتمع الحر، ورمز الرأسمالية العالمية، والمدافع عن قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والأعلى صوتاً بالتسويق لشعارات الأمن والسلام والاستقرار العالمي، بهذه الصفات والسمات تُعرف الولايات المتحدة نفسها أمام المجتمع الدولي، وبهذه الصفات والسمات يتم تعريف الولايات المتحدة من قبل أتباعها الغربيين بشكل خاص، ومن يؤمن ويصدق بالقيم والمبادئ والشعارات الأميركية بشكل عام. وبناءً على هذه القيم والمبادئ الليبرالية المُعلنة، والشعارات العاطفية المُعبرة عن السياسات الأميركية، استطاعت الولايات المتحدة تسويق نفسها عالمياً حتى وجِدت في معظم أقاليم ومناطق العالم بصفتها الداعمة لحرية الشعوب ونيل استقلالها من المحتل الأوروبي، والمؤيدة لحقوق الدول في السيادة وإقامة نظمها السياسية بالطريقة والشكل الذي تريده، والمنادية بالحرية وحقوق الإنسان حتى وإن تطلبت المسألة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتجاوز القانون الدولي، والداعمة لنشر الديموقراطية والليبرالية والعلمانية حتى وإن تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية. نعم، بهذه القيم والمبادئ والشعارات الأميركية كسبت الولايات المتحدة تعاطف الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، وتمكنت من الدخول بقيمها وشعاراتها ومصالحها لتلك الأقاليم والمناطق بكل يسر وسهولة حتى عززت مكانتها ووطدت وجودها بشكل تدريجي، وبهذه السياسات الذكية والشعارات العاطفية عززت الولايات المتحدة صورتها الجميلة في عقول وقلوب أبناء الشعوب الأخرى حتى أصبحت رمزاً للحريات وحقوق الإنسان، والرمز العالمي المدافع عن قيم الليبرالية والعلمانية. نعم، هكذا تمكنت الولايات المتحدة من تعزيز صورتها أمام المجتمع الدولي مُنذُ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945م) وحتى نهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي (1991م). ومع بداية عصر القطبية الأحادية الأميركية، وثبوت تفوقها الدولي والعالمي، بدأت الولايات المتحدة تُغير من سياساتها بما يعزز مكانتها الدولية والعالمية حتى وإن كان على حساب قيمها ومبادئها الليبرالية. نعم، فمع الواقع الجديد للسياسة الدولية القائم على هيمنتها العالمية، بدأت الولايات المتحدة تتجاهل، شيئاً فشيئاً قيم الليبرالية والعدالة والمساواة والإيمان بالقانون الدولي، واتجهت نحو سياساتها الخاصة القائمة على تعزيز مكانتها العالمية حتى وإن كان على حساب قيم الليبرالية ومبادئها التي تنادي عالياً. وإذا كانت فترة التسعينات (1991-1999م) تمثل مرحلة أولية من التحول الفكري في السياسات الأميركية، خاصة تلك المتمثلة بالوجود في أقصى الشرق الآسيوي لتعزيز هيمنتها السياسية والأمنية والعسكرية، بالإضافة لتصاعد الأفكار المؤيدة للصدام الحضاري مع الحضارة الإسلامية، إلا أن غزو واحتلال العراق في 2003م مثَّل التحول الحقيقي في السياسة الأميركية بابتعادها عن القيم الليبرالية نحو القيم الإمبريالية بشكل مباشر.

نعم، لقد مثل الاحتلال الأميركي للدولة العراقية في 2003م نقطة تحول حقيقية في القيم الأميركية، واختباراً حقيقياً لمدى إيمانها بالقيم والمبادئ الليبرالية التي تؤمن بها. وهذا التحول ابتدأ أولاً بالتجاهل التام للمؤسسات الدولية التي تعد عنصراً رئيساً لقيم الليبرالية التي تنادي بها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، وتعززت مع مناداة الولايات المتحدة بأهمية تأسيس الأمم المتحدة في (1945م) لتكون صوتاً للشعوب، ومنبراً لتطبيق القانون الدولي وقواعده بالشكل الصحيح والسليم. فبتجاهلها لمجلس الأمن الذي عارض احتلال العراق، وبتجاهلها لقواعد القانون الدولي الذي يعارض الحرب من غير أسباب قانونية، وباحتلالها للدولة العراقية وتدميرها الشامل لبنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية والثقافية وغيرها من مجالات، شوهت الولايات المتحدة صورتها الدولية على أنها دولة لا تؤمن بقيم الليبرالية، وسجلت الولايات المتحدة نفسها على أنها الدولة الأولى التي تتجاهل القانون الدولي والمؤسسات الدولية التي كانت تنادي بأهمية احترامها والعمل وفقاً لأنظمتها. وانطلاقاً من هذه المرحلة الجديدة التي تؤشر لابتعاد الولايات المتحدة عن قيم الليبرالية وما تنادي به من حريات عامة وحقوق إنسان في كل إقليم ومنطقة حول العالم، ابتدأت المصالح الأميركية السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية تتفوق على المبادئ الأميركية التقليدية والقيم الليبرالية التي تنادي بها لتتغلب بذلك المنافع على الحريات، والمصالح على حقوق الإنسان. وإذا كان احتلال العراق (2003م) يمثل نقطة التحول الكبيرة في ابتعاد الولايات المتحدة عن قيم الليبرالية والديموقراطية والعدالة والمساواة، فإن الموقف الأميركي من أحداث غزة التي ابتدأت في الـ7 من أكتوبر 2023م يمثل التحول الجذري في قيم الليبرالية الأميركية وابتعادها التام عن قيمها وخاصة قيم الحرية وحقوق الإنسان.

نعم، إن أحداث غزة التي ابتدأت في الـ7 من أكتوبر 2023م، وما تبعها من سياسات إسرائيلية عُنصرية، وتدمير شامل للبنية التحتية في قطاع غزة، وإبادة جماعية شاملة لأبناء غزة، وحصار شامل ابتدأ من خمسة عشر عاماً وتصاعد خلال الأشهر الأخيرة، واتباع سياسة ممنهجة لتهجير وتشريد أبناء قطاع غزة من أرضهم ووطنهم نحو أقاليم ومناطق خارج وطنهم، وقتل وجرح ما يزيد على المئة ألف إنسان في القطاع، جميعها تُمثل تحولاً جذرياً في قيم الليبرالية الأميركية التي كانت تنادي بها نحو قيم جديدة تتمثل بالمصالح والمنافع الأميركية. نعم، لقد عبَّرت السياسة الأميركية خلال أحداث غزة التي ابتدأت في الـ7 من أكتوبر 2023م عن تحول فكري وإيديولوجي في القيم الأميركية حتى أنها قادت المواقف الأميركية وأثرت في السياسات التي تتخذها المؤسسات الأميركية الرصينة التي كانت في عقود سابقة تقف بقوة مع القيم الليبرالية، وتفرضها على المؤسسة الرئاسية لتغليب قيم الحرية وحقوق الإنسان على قيم المنافع والمصالح السياسية والاقتصادية والتجارية وغيرها من مصالح تتعارض مع قيم الليبرالية. وهذا التحول الجذري في قيم الليبرالية الأميركية يتعزز يوماً بعد يوم، بتأييدها المطلق لإسرائيل، في ابتعادها عن قيم الحرية وحقوق الإنسان نحو المنافع والمصالح حتى وإن كانت على حساب صورتها التاريخية ومكانتها العالمية وشعاراتها السياسية. نعم، فكل يوم يقتل فيه فلسطينيين من قطاع غزة، وكل يوم تواصل إسرائيل سياساتها الإجرامية تجاه قطاع غزة، وكل يوم يمضي على حصار قطاع غزة، وكل يوم تواصل إسرائيل عملياتها التدميرية والهدامة تجاه قطاع غزة، كل ذلك يُبعد الولايات المتحدة عن قيم الليبرالية، ويجعلها عدواً لحقوق الإنسان أكثر من أن تكون صوتاً لحقوق الإنسان التي كانت تنادي بها وترفع صوتها عالياً بها. وإذا كانت السياسات الأميركية الخارجية المؤيدة تأييداً مُطلقاً للجرائم الإسرائيلية تجاه قطاع غزة تمثل تحولاً جذرياً عن قيم الليبرالية نحو قيم المصالح والمنافع الإمبريالية الأميركية، فإن ما تشهده الساحة الداخلية الأميركية من مواقف سلبية تجاه الاحتجاجات الشعبية والطلابية المطالبة بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والمؤكدة على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، والمنادية بموقف سياسي أميركي معارض للسياسات الإسرائيلية، يمثل تعبيراً حقيقياً عن مدى التحول الجذري في قيم السياسة الأميركية بابتعادها الكبير عن قيم الليبرالية وحقوق الإنسان إلى قيم ومبادئ المنافع والمصالح الإمبريالية.

وفي الختام من الأهمية القول إن على الولايات المتحدة أن تُدرك بأن مواصلة دعمها للعمليات العسكرية الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، ومزيد من تأييدها للجرائم ضد الفلسطينيين، يعبر تعبيراً صادقاً عن رغبتها بالابتعاد عن قيم الليبرالية، ويدلل على تغليبها لقيم الإمبريالية على قيم الحريات وحقوق الإنسان بشكل صريح، ويساهم بتشويه صورتها أمام الرأي العام الدولي. نعم، إن الولايات المتحدة تؤكد عبر سياساتها المؤيدة تأييداً مُطلقاً للسياسات الإسرائيلية وما تمارسه من إبادة جماعية تجاه أبناء قطاع غزة بأنها تقف بقوة مع الظالم ضد المظلوم، ومع القوي ضد الضعيف، ومع قيم الإمبريالية وما تحمله من قيم التوسع والاستعمار وانتهاكات حقوق الشعوب ضد قيم الليبرالية التي يفترض أنها تنادي بالحريات والقانون وحقوق الإنسان. فإذا كانت هذه المُفارقات واضحة، فماذا تريد الولايات المتحدة أن تكون في المستقبل؟ وأين تريد أن تكون؟ وكيف تريد أن تكون في نظر المجتمع الدولي؟