ما يحدث اليوم من تعنت وعرقلة لعملية السلام في الشرق الأوسط يحيلنا إلى ذاكرة التاريخ، ومناورات الحاضر، وحسابات المستقبل، فمن غير المتوقع تبريد صراعات الشرق الأوسط من دون الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية وتقرير مصير الشعب الفلسطيني.

إن إسرائيل احترفت وضع العصا في دواليب السلام، وروجت أن الفلسطينيين غير جاهزين للسلام، لكن هذا الكلام لا يرقى سوى لمرتبة الزيف.

في الأدبيات السياسية السائدة، يقال دائماً إن القضية الفلسطينية هي قضية الفرص الضائعة في الشرق الأوسط، بل قبل نشأة الدولة الإسرائيلية نفسها في 14 مايو عام 1948، إذ إن السائد في الأدبيات السياسية هو أن الفلسطينيين والعرب هم الذين لم يتركوا فرصة إلا وأضاعوها، منذ ثورة 1936 الفلسطينية، وقرار التقسيم 181 لسنة 1947، والحرب العربية - الإسرائيلية الشاملة عام 1948، التي نتج عنها وجود دولة إسرائيل المعترف بها دولياً.

هذا الكلام السائد لا يطابق الواقع الحقيقي، بل إن الواقع يؤكد أن فلسفة إسرائيل الحقيقية هي أنها لا ترى حلاً، ولا سلاماً استراتيجياً في الشرق الأوسط إلا بتصفية مفهوم الدولة الفلسطينية، أرضاً وشعباً وسلطة.

إسرائيل لم تترك فرصة إلا واغتالتها عن عمد وقصد وتصميم، فإذا بدأنا من بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الحالي، فقد اعترف بأنه هو الذي عمل على تدمير اتفاق «أوسلو»، الذي وقع بين الزعيم الراحل ياسر عرفات، وإسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، في حديقة الورد بالبيت الأبيض، بحضور الرئيس الأمريكي حينها بيل كلينتون.

ذلك الاتفاق شكل اختراقاً هائلاً في الصراع بالشرق الأوسط، وجعل إسرائيل دولة شرق أوسطية معترفاً بها، حتى لو لم تقم علاقات دبلوماسية بينها وبين كثير من الدول العربية، بمعنى أن الفلسطينيين أصحاب الصراع الأساسيين قد أقاموا سلاماً مع إسرائيل، وبذلك أعطوها شرعية الوجود، في حين لم تكن إسرائيل في أي مرحلة تاريخية هي التي تمنح الشرعية للفلسطينيين، بل الفلسطينيون أنفسهم هم الذين جعلوها مقبولة في الشرق الأوسط، من خلال الاعتراف المتبادل.

إذن نتانياهو انطلق من مفاهيم خاطئة، عندما نص في كتابه «مكان تحت الشمس»، أنه لا وجود للشعب الفلسطيني، وقاد التيار اليميني المحافظ الذي أفضى إلى اغتيال إسحاق رابين، صاحب توقيع اتفاق أوسلو، الذي كان سيقوم على توقيع اتفاق مع سوريا، والانسحاب من الجولان المحتل منذ عام 1967، لكنه باغتيال رابين، اغتيلت فرصة السلام، وحقق نتانياهو، والتيار الذي يقف وراءه مآربهم في كتابة تاريخ التأزيم، وإضاعة الفرص، واتهام العرب والفلسطينيين بأنهم هم الذين يعملون على إضاعة فرص السلام.

استمر صاحب كتاب «مكان تحت الشمس» في مواقفه الداعية إلى تدمير وتصفية القضية الفلسطينية دون توقف، ومن خلال وجوده رئيساً للوزراء لفترات طويلة، يحدد الرؤية الاستراتيجية للسياسة الإسرائيلية القائمة على التوسع والاستيطان، وطرد الفلسطينيين من أراضيهم، وأخيراً ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية.

الحقيقة أن نتانياهو يمثل حلقة في سلسلة طويلة احترفت اغتيال فرص السلام الاستراتيجي العادل في الشرق الأوسط. فإذا عدنا إلى مذكرات المرأة الحديدية، جولدا مائير، أول امرأة إسرائيلية تصبح رئيسة وزراء، فسنجد أنها تنكر حقوق الفلسطينيين، وتنظر إلى الأراضي الفلسطينية آنذاك على أنها أراضٍ فارغة من السكان عكس الواقع، فقد عملت هي وحكومة ديفيد بن جوريون، على تهجير الفلسطينيين في حرب 1948، حيث وصل العدد إلى أكثر من 750 ألف فلسطيني من عدد السكان البالغ آنذاك مليون نسمة، أي أنهم طردوا ثلاثة أرباع السكان الفلسطينيين آنذاك، هذا غير ارتكاب المجازر التي وقعت في دير ياسين، وكفر قاسم، وغيرهما من البلدات الفلسطينية.

غير أن مسار اغتيال الفرص لم يتوقف عند هذه المحطة، بل إن شيمون بيريز، زعيم حزب العمل اليساري، كان هو الذي ارتكب مجزرة مدرسة قانا، في لبنان عام 1996، وهكذا إذا عدنا إلى أرييل شارون، فسنجده هو الذي تسبب في اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، باقتحامه باحة المسجد الأقصى في حراسة ثلاثة آلاف جندي إسرائيلي.

قبل كل ذلك، فإن المفاوضات التي جرت بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وإيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل المحسوب على اليسار، لم تفضِ إلى أي مسار سياسي، وذلك لأن الهدف الإسرائيلي الاستراتيجي المركزي هو التسويف والتأجيل واغتيال الفرص، وصولاً إلى إفراغ القضية الفلسطينية من محتواها، بوضع جميع العراقيل، وشطب أية محاولات للسلام.

لا ننسى أن العرب قدموا مبادرة السلام العربية في بيروت عام 2002، وكانت تلك المبادرة هي الأشمل لإقامة السلام، لكن الفلسفة الإسرائيلية في اغتيال الفرص لا تتوقف.