قَضَى صَمْويلْ بِيكِيتْ عَلَى اسْتراجون وفْلادِيمير، بَطَلَيْ مَسرحيته الشَّهيرة "في انتظار گُودُو"، بِيَوْمٍ يَبْدَأُ بِتَرقُّبِ الآتِي البَعيد ويَنْتهي بِبدايةِ اليوْمِ نَفْسِه، مَع ما تَيَسَّرَ مِن الاخْتلاف الذي تَسْمحُ به عَبثيةُ المَشاهِد، وهَذا في ذاتِه حُكمٌ بالانتظارِ المُؤبَّد. وتَكْمُنُ عَبقرية بيكيت في اعْتمادهِ على شُخوصٍ تَعيش خارجَ الزَّمن المسرحي، وكأنه يُطِل من خلال المَشْهَد الأوَّل عَلى حَالَة سَرمَدية مِن الانتظار، لِيُنْهِي المسرحية بِمَشْهَدٍ لا نِهائي مِن الانْتظارِ الأَبَدِي.

والحال أن بيكيت لَم يُنْهِ المَسرحية لِأنَّه لَمْ يَبْدأْها في الأصْل، فَقَط أَطلَّ عَلَيّ والتَقطَ لي صُورَة مُتحركة، تُلَخِّصُ واقِعِي بِبراعة في الإِخْراج وتُخَلِّصُني مِن عِبْء التَّشْخيص. أنا في مسرحية طويلة مُمْتدة لا نِهاية لَها، وقَدْ حَلَّ بيكيت ضَيْفاً علَيّ وارْتحَل، تارِكاً مُوجَزاً مَكْتوباً عن رُوتِيني اليَوْمِي. حتى اختيار بَطلين اثْنين للمسرحية ليس إلا تَشخيصاً لِثُنائِية الأَنا، فما الوُجودُ سِوى نَهرٍ بين ضِفَّتين. أنا ذا المُنتَظِرُ وذاكَ ثانِي اثْنين، أنا المُنْتَظِر نَهاراً وذاك مَن يَنتظرُ بِالليل، وكِلانا اسْتِغاثَةُ شاعرٍ بِنُونِ المُثَنَّى، يَسْتَجْدي بِها عَطْفَ البَيْت.

وقَدْ سُئلَ بيكيت ذاتَ استجوابٍ عَمَّا إذا كان بَطَلا نَصِّهِ يَنتظران تَجليَّ الرَّب، فَأجاب بأنَّه لَو كان المُنْتَظَرُ رَباًّ لَكان اسمُهُ "گُود" (رَب) ولَمَا أسْماهُ "گُودُو" وهو اسْمُ عَلَمٍ لمجهولٍ مُسْتَتِرٍ طِيلَةَ المسرحية، لا أحد يدري من يكون، ولا حتى الكاتب نفسه. بيكيت تَرَكَ لِي إِذَن الاخْتِيار وتَرَكَ الآتِي البَعيد مَفْتوحاً على جميع المِلَلِ والنّحل، فَقد يَجيء إِمام مُنتظَر مِن الشَّرق، وقد يَكُون مَسيحاً من جِهة الغَرْب، وَلِي الحُرية التَّامَة في الانتظار، سِراً بالطَّبع ولَيسَ في العَلَن.

أنا إذنْ حُرٌّ في أَن أَنتظرَ ما أُريد، وها أنا ذَا أنتظر. أَنتظرُ تَحريرَ مَدينةَ القُدْس وما بعدَ مَيْدانِ التَّحْرير، أَنتظرُ رَبيعَ غزَّة وما بعدَ الربيعِ العَرَبي، أَنتظرُ فَتْحَ مَعْبرِ رَفَح وما بعدَ سَدِّ بابِ المَنْدَب، أنتظرُ الردٌَ الإسرائيلي على ما بعدَ الردِّ الإيراني، وما زلتُ أنتظر. في كلِّ يوم، أنتظرُ طَوقَ النَّجاة من الطوفان وكثيراً ما أنتظرُ ما بَعدَ الظُّهر حَتَّى لا يَجِيء أَحَد، فأَضْربُ لِنَفْسي مَوْعِداً مع نَفْسي مِلء نفْسي في مقهى صَغير يُطِل عَلى الجَزيرة. أنتظر جَوْقَتِي، عُصْبَتِي، جَمْعِي في مُفْرَدي، غائبي وشاهدي، لَمَّ شَعَثِي ولمَّةَ شِيعَتِي، أنتظرني هناك، في كل مساء، ولا أجيء ولا يجيء أحد. وأبِيتُ اللَّيل أنتظرُ الحبيبةَ البعيدةَ أن تُكَمِّلَنِي والقرينَ القريبَ أن يُكَلِّمَنِي، وفي الصباح أَنتظرُ تَأويلَ حُلُمٍ أُصِيبَ بالتأخير ثم يمضي يومٌ جديد، من انتظارِ ما كُتِبَ في النصِّ الأولِ عن النَّصْرِ الأخير.

إقرأ أيضاً: لا صديقَ ولا عَدُوَّ هنا يا غزة هاشم

إلى المناضلين غداً، إلى الحَشْدِ المُؤجَّل، إلى الحُمَاةِ يوماً ما، إلى الفصائلِ كُلِّها: أُحَيِّيكُم تَحيَّة انتظارية، أَضُمُّ صَوتي لأَصواتِكم الخافِتة، أشُدُّ على أَيَاديكُم الرَّاجِفَة، أدْعوكُم إلى ضبط ساعاتكم اليَدوِيَّة، ولنَصْمُد حتى تَحْقيقِ عَقارِبِنا كُلِّها. لا نِزالَ ولا إِنْزالَ حتى يُنَزَّلَ آخِرُ ما في القانون وتُرْفَع كُلُّ الأُجور، حتى يتفق الجِنِرالات على أن يَقِلََّ المَوتُ في المعركة الآتية وأن نَكْتَفي بحربٍ اصْطِلاحيةٍ حَولَ جَوهَر الانتظار. حينها فقط، نَتَجَنَّدُ للمُناظَرَة ويَنْتَظِر كُلٌّ واحدٍ مِنا دَوْرَهُ في الكلام، بِكُلِّ ما أُوتِي مِن وَقْتٍ وقُوَّة.

انْضَمُّوا انْضَمُّوا، هَلُمُّوا فَما ضاعَ حقٌّ وراءَهُ انتظار.

وَلْنَرفَعِ الشِّعار: مُنتظرون مُنتظرون ولْيَسْقُطِ النِّضَال.

الانتظارُ عَقيدتُنا وذاكرتُنا، هوِيتُنا الأولى ومَصيرُنا، لا مخرجَ في الموت فنُذُرُ الأَنبياءِ أبَديةٌ وجَحيمُ سارتر قاعةُ انْتظار. واعْلَموا يا إخوانَ اليَمَان أنَّها انتظار، فانتظروا إني مَعكم مِن المُنتظرين. وأُذكِّرُكم يا رِفاقَ اليَسارِ، إذا ما نَسِيتُم، أنَّ ما لا يَأتي بالانتظار، يَأتي بمَزيد من الانتظار.

ولَوْ أَنَّ لي مَخْرجًا لعاقبتُ بيكيت ولَكَتبت نهايةً للمسرحية، نهايةً يجيء فيها ذاك الذي سَأذكرُ اسمهُ وأَصف شكله، وأظن أنَّ اسمي وجسدي يَفَيَانِ بِالغَرض، فيكفيني أَن يَجيء من يَكونُنِي وأَكُونُه، ولا أَسلمَ لي ولا أَأْمن مِن اسمي الذي نسيت أن أذكره وظِلِّي الوَفِيّ الذي ظَلَمْتُه حين خِفْتُ أن أَسْكُنَه.