بقلم زينو عبدالله البرزنجي*

صدر حديثا في السليمانية، كتاب جديد للناقد الدكتور فائق مصطفي، يحمل عنوان (المقالة الادبية و الاستنارة)، يبحث في دور المقالة الادبية في إشاعة القيم التنويرية في مجتمعاتنا، نقرأ في مقدمة الكتاب (هذا كتابي الثاني، بعد كتابي الاول (دفاع عن المقالة الادبية)، يصدر ضمن مشروعي الثقافي القائم علي العناية ب (فن المقالة) واستثمارالمقالة في الميادين التربوية والثقافية علي نحو عام. لقد عملت منذ عقد الثمانينات من القرن المنصرم، علي استثمارة في تحقيق الوظيفة الخلقية للجامعة، الي جانب الوظيفة العلمية، في جامعاتنا العراقية، ورفعت شعار ( إقرأ كل يوم مقالة، تتثقف)، وقد أتي ذلك أكله في اوساط الطبلة الجامعيين، كما يشهد بذلك طلبتنا الذين صاروا اليوم تدريسيين في جامعاتنا). (الكتاب\5).
في مستهل الكتاب يثبت المؤلف العلاقة الوثيقة بين نشأة المقالة الحديثة والتنوير، ويعتبر المقالة الادبية عطاء من عطاءات التنوير، والدليل علي ذلك تجسيد مقالات منشئ المقالة الحديثة (مونتاني 1533-1592)، الكثير من قيم ومبادئ عصر النهضة الاوروبية التي ابتدأت في منتصف القرن الخامس عشر، وثمة اتفاق بين المؤرخين علي أن عصر النهضة الاوروبية كان البواكير الاولي التي شكلت أسس التنوير الاوروبي في القرن الثاني عشر.ان مقالات مونتاني التي يضمها كتابه (محاولات) تتسم بنزعة عقلية وفلسفية، ومحورها الانسان، تربيته، عقله، سعادته، علاقاته بغيره. وقد توصل مونتاني الي ماتقوله التربية في عصرنا الراهن، من أن الهدف الرئيس للتربية والتعليم ليس الحفظ، بل تعلم التفكير والحكم علي الاشياء وإنماء العقل وتثقيفه.
من مباحث الكتاب (دور المقالة الادبية في تنمية الانسان) تناول فيه المؤلف الدور التربوي للمقالة في تحقيق تنمية الفرد والمجتمع ثقافيا وحضاريا، ومن ثم الاسهام في القضاء علي الآافات الاجتماعية التي نعانيها في هذه الايام مثل التطرف والتعصب والميل الي العنف والنأي عن العقل والاعتدال في النظرة الي الدين، في ضوء نصوص لكبار كتاب المقالة العربية امثال مصطفي لطفي المنفلوطي و أحمد أمين وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم. وجاء في نهاية المبحث (فهذه النصوص المقالية التي عرضنا لها لاضاءة القضايا التنموية الثلاث (العقلاتية و التسامح و النظرة الانسانية الي المرأة) والتي تتضمن أفكارا تنويرية وبناءة، تصلح كل الصلاح، لاستثمارها في ميادين التعليم، في المدارس والجامعات والمدارس الدينية، وفي ميادين الاعلام وميدان التعليم الذاتي، وأنا علي يقين بأنها ستؤتي أكلها وتسفر عن نتائج تربوية ايجابية، في تغيير النفوس، و بنائها بناء حضاريا، سوف يكون لها دور فعال في تحقيق التنمية البشرية المنشودة)، (الكتاب\39).
أما معنى مصطلح (التنمية) الذي يتبناه المؤلف في الكتاب، فهو (العلم حين يصبح ثقافة)، والتخلف يعيني (العلم حين ينفصل عن الثقافة)، أوهو (الثقافة حين لايؤسسهاالعلم)، ولايضاح ذلك يورد المؤلف مايقوله الجابري عن العلم والثقافة في البلدان العربية حيث نجد العلم سواء كمعارف او كتقنيات والات، يشكل عالما يختلف بل ويتناقض مع عالم الثقافة السائدة، الثقافة بمعناها الواسع الذي يشمل السلوك والتقاليد والنظام الاجتماعي والسياسي والحياة، الفكريةوالعقليةالسائدة. والنتيجة قيام كيان المجتمع علي كتلة من المفارقات والتناقضات، التناقض بين السيارة التي من اخرطراز (مثلا) وبين سلوك راكبها الذي مازال يحتفظ في مظهره ومخبره، بسلوك راكب الفرس او راكب الجمل المتباهي المتسابق.
وفي مبحث (التربية العقلانية في مقالات زكي نجيب محمود) يحدد المؤلف التربية العقلانية في خمسة أمورهي: إحترام انسانية الانسان، نبذ التدين المظهري، الحرية ورفض الطغيان، الاحساس بالجمال، والسعادة القائمة علي البساطة.وقبل ذلك يورد المؤلف تعريف الفيلسوف الالماني (كانط) للتربية وهو (ترقية جميع أوجه الكمال التي يمكن ترقيتها عند الفرد، وأن الهدف من التربية هو أن ننمي لدي الفرد كل مانستطيع من كمال).
وفي ختام المبحث يدعو المؤلف ( التربويين والمثقفيين علي نحو عام، لاستثمار هذه المقالات ذات النزعة العقلانية لزكي نجيب محمود، في ميادين التربية، هذه المقالات التي تجسد القيم والممارسات الحضارية الرفيعة، وتعلمنا، في الوقت نفسه، كيف نستطيع الوصول اليها وتحقيقها علي أرض الواقع. وثمة في المقالات مايعين علي النجاح في تحقيقها تربويا، وذلك لاسلوبها الادبي الذي ينأى بالمقالات عن اسلوب الوعظ والارشاد المباشر الذي ثبت عدم جدواه في ميادين التربية.وهذا الاسلوب الادبي يقوم علي العناية باختيار الالفاظ وتراكيب الجمل، واستخدام السرد (الحكاية) والتناصات المختلفة والصور المجازية. كل ذلك يثري مافي المقالات من أفكار وتوجهات، ويدعمها ويسهل وصولها الي نفوس الطلبة وعقولهم. وإني متفائل بأننا، إذا استطعنا إيصال هذه المبادئ الحضارية الي طلبتنا وشبابنا، وجدنا أنفسنا نخطو في طريق التنمية والتقدم، لان في إشاعة هذه المبادئ في مجتمعاتنا، خلاصا من أغلب المشكلات الاجتماعية والسياسية التي نعانيها). (الكتاب\65).
أما مبحث (الرؤى الاجتماعية و المستقبلية في مقالات أحمد امين)، فقد درس فيه المؤلف المشاريع المستقبلية لأحمد أمين، المتعلقة بخمس قضايا هي: الدين، والادب، والتربية والتعليم، والمرأة، والسياسة والحكم. (إن نزعة أحمد أمين الاصلاحية، دفعته الي العناية بالمستقبل، وذلك بسعيه الي رسم مآل القضايا الاجتماعية وغيرها التي تناولها نقده الاصلاحي مستقبلا، في مقالات أشارت عناويتها صراحة الي ارتباطها بالمستقبل... فمقالاته، في جملتها، تحمل أفكارا واراء اجتماعية وتربوية وحضارية ناضجة إذ نراه مهموما بما يري في المجتمع من سلبيات وعيوب وممارسات ضارة في ميادين الدين والادب و التربية والتعليم والسياسة والحكم والمرأة، لكنه لم يكتفِ بتشخيص هذه السلبيات فحسب، وانما عمل علي وضع النقاط علي الحروف بتحديد طرق علاجها، والدعوة الي اشاعة قيم وعادات حضارية). (الكتاب\91-92).
وأما مبحث (محمد كرد علي والتنوير) فقد خصصه المؤلف لدراسة القيم التنويرية عند شخصية كردية محمد كرد علي (1876-1953) رئيس المجمع العلمي العربي ووزير المعارف في سوريا في عهد الانتداب الفرنسي، والقيم التنويرية التي وقف عندها المؤلف في مقالات محمد كرد علي ، هي الاحتكام الي العقل، والنظرة المعتدلة الي الدين، والدعوة الي المساواة، والقيم المدنية.
إذن، في ضوء ماعرضناه، يمكننا القول بأن الكتاب يستحق القراءة والافادة منه، خاصة في الميادين التربوية بالمدارس والجامعات، كونه يهدف الي اضاءة طريقنا نحو التنمية والتقدم، بالقيم والمبادئ التنويرية التي تقدم بها العالم المتحضر.

مدرس في جامعة السلمانية والاعلامي