يقتحم مهنّد الحاج علي، بعمل بحثيّ - ميدانيّ، عالم حزب الله بوصفه تنظيماً وأفكاراً، ولكنْ أيضاً كطرق التفافيّة تفضي إلى الحزب أو تتفرّع عنه. فالباحث اللبنانيّ الشابّ، في أطروحته التي نشرتها كتاباً دار «بلغريف ماكميلان» بعنوان: «القوميّة والرابطة العابرة للقوميّة والإسلام السياسيّ– هويّة حزب الله المؤسّسيّة»، يرصد هويّة الحزب وحداثيّته، إلاّ أنّه يفعل ذلك من ضمن إحاطة بالكون الشيعيّ الأوسع في لبنان، ولكنْ أيضاً في إيران وصولاً إلى أفغانستان.

لكنّ أهمّ ما في هذا الكتاب المهمّ تركيزه على حزب الله من زاوية المشروع «القوميّ» الذي يرعاه لبناء هويّة شيعيّة جديدة للشيعة اللبنانيّين.

فالحزب يُهندس التاريخ كخطّ متجانس وتصاعديّ من الحروب والصراعات. وهو خطّ محكوم حتماً بالنصر، فحين يتعثّر بهزيمة عابرة، يكون الآخرون المتآمرون المسؤولين عنها. ذاك أنّ البيئة التي يمثّلها حزب الله، وقد مثّلها قبلها رجال دين ومناضلون وشهداء شيعة، إنّما تحتكر، على نحو حصريّ، ما هو صائب ووطنيّ وثوريّ.

دراسات القوميّة

لقد قدّمت دراسات القوميّة ما يفيد في فهم ظاهرات كحزب الله. فإرنست غِلنر الذي أكّد كسواه من الدارسين الهويّة العلمانيّة لقوميّات أوروبا، فتح الباب لاستثناءات عرفها العالم الإسلاميّ. ذاك أنّ القول بأنّ القوميّة تصلح أداةً للتصنيع إنّما يجد استثناءه في العالم الإسلاميّ، حيث يعمل الإسلام كـ «معادل وظيفيّ للقوميّة بطريقة لم تكن ممكنة مع المسيحيّة».

والراهن أنّ الحركات الإسلاميّة، كحزب الله، تلتقي في مواصفات عدّة مع الحركات القوميّة (العلمانيّة) في الغرب. فهي تنقّب في التاريخ بحثاً عن الرموز والأبطال، لكنّها أيضاً قادرة على تعبئة تلك المصادر القديمة عبر أدوات حديثة، كاستخدامها النشر ووسائل الإعلام. هكذا تغدو إعادة بناء التاريخ الشيعيّ اللبنانيّ على يد الحزب جهداً حديثاً يشبه جهود القوميّات الأوروبيّة في هذا المضمار، ولو أوغل الطرفان في الهبوط إلى الأساطير والخرافات. وهذا كله، ومنظوراً إليه من زاوية الموقع العدديّ الشيعيّ في لبنان أو في العالم الإسلاميّ، إنّما يتيح الحديث عن «قوميّة أقلّيّة» و «قوميّة طائفيّة».

الأصول...

لكنّ كتابة التاريخ وصناعة الهويّة لم ينطلقا، مع الحزب، من الصفر. فقد سبق أن مهّد لذلك المثقّفون الجنوبيّون «العامليّون» في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، لا سيّما منهم محمّد جابر آل صفا (1875-1945) الذي ترك آثاراً معترفاً بها على مثقّفي حزب الله. أمّا مسعاه الآيل إلى اختراع «العامليّة» فاندرج في مشروع سياسيّ– ثقافيّ مناهض للعثمانيّين ومؤكّد على وحدويّة سوريّة عربيّة يتمتّع «جبل عامل» ضمنها بلون من الحكم الذاتيّ.

لقد وُضعت، مع آل صفا، اللبنة الأولى في إعادة بناء التاريخ الشيعيّ والجنوبيّ، بكلّ ما يختزنه التعبير من حمولة إيديولوجيّة. والسرد إنّما يبدأ بحركة انتقال السكّان الشيعة من شمال لبنان جنوباً وبقاعاً، إبّان المماليك والصليبيّين، بوصفه حلقة من سلسلة أحداث، كارثيّة ونضاليّة، متلاحقة.

بيد أنّ «تأريخ» جبل عامل هذا اعتمد أساساً على أشعار رجال الدين الجنوبيّين ومرويّاتهم الشفويّة. ومن آل صفا حتّى حزب الله، استمرّت صعوبة تحويل المادّة الشفويّة إلى «تاريخ» يُحمل على محمل الجدّ. فآل صفا أعاد إلى الاضطهادات وظروفها أسباب نقص المراجع، لكنّه مضى في مهمّته التأسيسيّة لم يُثنه عنها الافتقار إلى شروطها الأوّليّة تلك. فوق هذا، كثيراً ما لوى الانحياز الإيديولوجيّ، في ذاك «التأريخ»، عنق الواقع. فقد أُكّد، مثلاً، دور «العلماء» القياديّ في تاريخ جبل عامل وسياسته، والحال أنّ من سمات تطوّر الجنوب، ذي القطاع الزراعيّ المهيمن، ضعف تأثير «العلماء» لمصلحة الملاّكين، وهو ما لم يتغيّر حتّى التمديُن الكثيف في الستينات، الذي دفع الفلاّحين الجنوبيّين إلى المدن.

وكمثل الهويّة العامليّة وقيادة العلماء، تولّى آل صفا هندسة وجوه أخرى في الرواية الشيعيّة، من غير أن تسعفه المراجع والدقّة. فهو عزّز الخرافة القائلة بأنّ أصول «الشعب العامليّ» ترجع إلى قبيلة عاملة اليمنيّة والعربيّة التي صعدت شمالاً واستوطنت في 300 ق.م.، وأنّ شيعة الجنوب قاتلوا إلى جانب الإمام الحسين في كربلاء، كما أنّ أبا ذرّ الغفّاريّ هاجر إلى جبل عامل، وهو أحد صحابيّين أربعة وقفوا في صفّ عليّ بن أبي طالب، كما انتفض على الأمويّين وارتبط اسمه بالدفاع عن الفقراء والمحرومين ضدّ بذخ بني أميّة وعجرفتهم.

مؤسّسات...

لقد بنى حزب الله على مدى عقود ثلاثة عدداً من المؤسّسات غطّت رقعة عريضة من الخدمات الاجتماعيّة، فيما كان يخوض مقاومة عسكريّة ناجحة ضدّ الإسرائيليّين، وهو ما بلغ ذروته مع انسحاب 2000 ليبلغ ذروة أعلى في 2006. وكان غنيّ الدلالة أنّ بعض هذه المؤسّسات أنشئ كنُسخ وامتدادات للمؤسّسات الأمّ في إيران، كحال «الإمداد» و «الشهيد». أمّا العمودان اللذان قامت عليهما الدعوة الإيديولوجيّة التي ترعاها المؤسّسات، واللذان أريد لهما أن يكونا لحمة «الأمّة» الموعودة، فهما المقاومة وولاية الفقيه.

والحزب لم يكتم أنّ الهدف من مؤسّساته التعليميّة نشر «ثقافة الالتزام الدينيّ»، مصرّاً على «الثقافة» بوصفها ما يصنع «الهويّة»، حيث أنّ المقاومة ليست الهدف، بل نتاج من نتاجات الثقافة.

والرهان على ثقافة تصنع المقاومة، ومقاومة تُحدث التعبئة حولها، نجح فعلاً. فبعد الاستقطاب الحادّ الذي عرفه لبنان في 2005، فاجأ حزب الله الكثيرين بقدرته على أن يعبّئ بسرعة مئات الآلاف من مؤيّديه الشيعة. ثمّ جاءت حرب 2006 التي خلّفت 1200 قتيل أغلبيّتهم الكاسحة من الشيعة، لتضاعف شعبيّة الحزب. وهنا، وعبر منشوراته ودور نشره، عمّم الحزب سرديّات خوارقيّة عن تلك الحرب، مؤكّداً روابط جامعة مفترضة بين مقاتليه وقوى المقدّس، ثمّ، وبما شكّل صدمة للمراهنين على «لبننة» الحزب، جاء احتلال بيروت في 2008 ليعزّز بدوره الالتفاف الشعبيّ الشيعيّ حوله.

والحال أنّ العلاقة لا تخطئ بين تعاظم القوّة والاشتغال على الهويّة من خلال تغيير القيم والرموز والذكريات والأساطير والتقاليد.

عاشوراء وأدبيّات الحزب

وكعيّنة بارزة على أدبيّات الحزب، يمكن الاستشهاد بكتاب «الجذور التاريخيّة للمقاومة الإسلاميّة في لبنان» الذي كتبه في 1993 الناشط الحزب- اللهيّ محمّد كوراني، ونشرته «دار الوسيلة» القريبة من الحزب، مستنداً في الكثير ممّا ذهب إليه إلى محمّد جابر آل صفا. فالكتاب هذا يتوغّل عميقاً في التاريخ اللبنانيّ ليعثر على وقائع أو معانٍ غير مثبتة في مربّع العلاقات الشيعيّة مع كلّ من السنّة والمسيحيّين والقوى الأجنبيّة.
وهو يبدأ كتابه مُقرّاً بأنّ عمله يعاني النقص في المراجع والوثائق والمصادر التي فُقدت أو احترقت بسبب اضطراب الأحداث. إلاّ أنّه يمدّ جسراً بين مقاومة حزب الله لإسرائيل ومقاومات شيعيّة يُفترض أنّ العهود الصليبيّة والمملوكيّة والعثمانيّة والفرنسيّة قد عرفتها، بانياً بالتالي تاريخاً متّصلاً للعذاب الشيعيّ.

والحزب، إلى خطابه ومؤسّساته، يستخدم تغيير الطقوس التقليديّة الشيعيّة في خلقه للهويّة. وهذا يتجسّد أكثر ما يتجسّد في عاشوراء. فقبل 1982 كانت طقوس عاشوراء الشيعيّة ذات شكل مضبوط وغير سياسيّ. لكنّها مذّاك تغيّرت جذريّاً لتغدو أشدّ حدّةً ودراميّةً وسياسيّةً، وأحياناً استفزازيّة للطوائف الأخرى. ففي السبعينات، كان احتفال عاشوراء الرئيسيّ يُعقد في المدرسة العامليّة ببيروت، ولم يكن سياسيّاً بتاتاً. وكان الحضور بعد قراءة «مصرع» الحسين يؤوبون إلى بيوتهم، فيما كانت «اللطميّة» أقرب إلى اللمس غير الموجع للجسد. وكان المهاجرون الإيرانيّون، مطالع القرن العشرين، قد حملوا هذا الطقس السنويّ إلى مدينة النبطيّة، ومن خلال القنصليّة الإيرانيّة، تقدّم طبيب إيرانيّ اسمه ابراهيم ميرزا بطلب رخصة من السلطات العثمانيّة تجيز أداء الطقس هذا. وحتّى 1919، كان لا يُسمح إلاّ للعائلات الإيرانيّة بحضوره، فيما كانت التلاوة تقتصر على الفارسيّة، بينما تخلو المسيرات من المعاني السياسيّة. على أنّه مع ثورة إيران وتنامي نفوذها في لبنان، خصوصاً بعد غزو 1982، تغيّرت تلك الطقوس نوعيّاً. فقد غدت المسيرة أو التظاهرة التي تلي «المصرع» استعراضيّة، تعيد إنتاج التظاهرات التي شهدتها إيران قبيل الثورة والتي أفضت إلى إطاحة الشاه. واليوم بات الحزانى الشيعة يتدفّقون على الشوارع بعد تلاوة «المصرع»، كما باتت التظاهرة سياسيّة تملأها الهتافات للمقاومة الإسلاميّة والتنديد بأميركا وإسرائيل اللتين تُحرق أعلامهما وتتم مماهاتهما مع قاتلي الحسين.

كذلك لم تعد المسيرات محصورة بالنبطيّة وبيروت، بل باتت تحلّ حيث هناك تجمّع سكنيّ شيعيّ، حتّى لو كان التجمّع أقلّيّاً في منطقة أكثريّتها سنّة أو مسيحيّون. أمّا اللطميّة الخفيفة فحلّت محلّها أشكال دمويّة ذات أصول إيرانيّة وعراقيّة وبحرينيّة، تُستخدم فيها أدوات وسلاسل حديديّة مسنّنة وحادّة. وما لبث الطقس، بعد حرب 2006، أن مُدّد أيّاماً ثلاثة تتخلّلها مسيرة لتكريم قريبات الحسين النساء، خصوصاً أخته زينب.

وككثير من الحركات الدينيّة، يثير واقع الحزب توتّراً بين استمراريّة تاريخيّة يردّها إلى حقب إسلاميّة سابقة وبين إقامة هياكل تنظيميّة حديثة وعقد مؤتمرات وإجراء انتخابات، ممّا لا يكتم تأثّره باللينينيّة لجهة التنظيم والتعبئة وموقع القائد. بيد أنّ هذا التعارض بين مقدّمات دينيّة وتاريخيّة وبين استخدامات حديثة إنّما يُفهم، هو أيضاً، من ضمن المشروع «القوميّ» لهندسة الهويّة الشيعيّة. وهو مشروع متراصّ بقدر ما هو عسكريّ. فالحزب، مثلاً، وتيمّناً بالباسيج الإيرانيّ، بنى شبكة موسّعة للتدريب العسكريّ المتعدّد الاختصاص. وكالباسيج الذي قاتل في الحرب مع العراق إلى جانب الجيش النظاميّ، تعمل هذه الشبكة من الاحتياطيّين إبّان المواجهات العسكريّة، فتقدّم العون المحلّيّ واللوجستيّ للطاقم العسكريّ. أمّا في مؤسّساته التعليميّة، فتتحوّل فروع الحزب جزءاً من «التعبئة التربويّة»، ويُدرّب الطلّاب تدريباً عسكريّاً كما يتلقّون ثقافة إيديولوجيّة ودينيّة، فيما يؤدّون مهمّات المساعدة اللوجيستيّة، وقد يخدمون في حالات الصدام العسكريّ في فرع التنظيم العسكريّ.

اللغة والرموز

ومع أنّ حزب الله أساساً قوّة عسكريّة وأمنيّة، فإنّه أيضاً الناشر اللبنانيّ الأكبر، وهو الاهتمام الذي ظهر في الثمانينات وتطوّر في التسعينات ليشتدّ بعد انسحاب 2000. فهو، مثلاً، ينشر مجلّة تطبع 30 ألف نسخة هي «بقيّة الله» التي لا تنافسها أيّة نشرة لبنانيّة أخرى، وعلى كلّ حزبيّ أن يقتني نسخها. وإذا كانت لدى مؤسّسات الحزب نشراتها، فإنّ بعضها كـ «كشّافة المهديّ» يملك مجلاّت عدّة تستهدف فئات عمريّة مختلفة، وهناك «المرشدة» للكشّافات البنات. أمّا إحدى دور نشره، «المعارف»، فنشرت مئات الكتب والدراسات الإيديولوجيّة.

لقد حوّل الناشرون، المرتبطون بالحزب على نحو أو آخر، قطاعاً ضعيفاً كقطاع النشر تحويلاً كاملاً، مضاعفين حجمه ومستحوذين على قرابة نصف عائداته، علماً بأنّ الأسعار المنخفضة لكتبه تجزم بأنّها مدعومة.

ويدير الحزب كذلك شبكة ضخمة من المنافذ الإعلاميّة، بما فيها محطّتا تلفزيون وراديو، وصحيفة أسبوعيّة، ومجلّة واحدة على الأقلّ لكلّ واحدة من مؤسّساته.

وتشكّل منشوراته ومراكزه الثقافيّة والتعليميّة والبحثيّة المصدر الأوّل والأهمّ لصناعة الوعي في ضاحية بيروت الجنوبيّة. كذلك تندرج مَرْكزة الرسالة الثقافيّة (المقاومة وولاية الفقيه) عبر مؤسّسات الحزب لتؤكّد مدى تعويله على بناء الهويّة الجامعة التي تعمل بدورها على إنجاح التعبئة وتصليب الدعم.

لقد اندمجت في «الوحدة الثقافيّة المركزيّة» أدوار إيديولوجيّة وثقافيّة كانت تلعبها أجهزة سابقة عدّة، ما أنهى احتمالات التضارب والتناقض وظهور تيّارات «روحيّة خطيرة». كذلك تعامل الحزب مع لامركزيّة «التقليد» حيث يختار المؤمن من يقلّد من رجال الدين. فمنذ 2000 حُسم اختيار الحزب لآية الله خامنئي كمرجع تقليد أوحد، على رغم اعتراضات كثيرة تطاول جدارة خامنئي الدينيّة.

لقد كانت «اللغة» أساسيّة في نظريّة بانديكت أندرسن عن «الجماعات المتخيَّلة» والقوميّة. ذاك أنّ الطباعة وبالتالي تعميم الأدب المطبوع يربطان بينها، بما يسوّي نتوءات الفوارق اللغويّة على نحو تعكسه الكتب والصحف. وهذا أساسيّ في تواصل الجماعات والإحساس بهويّة قوميّة لا تكفّ المادّة المطبوعة ولغتها عن تعزيزها.

وبدورها فالمؤسّسات الإعلاميّة والتربويّة لحزب الله، في إنتاجها للهويّة الجامعة، تغطّي المناطق التي يقيم فيها شيعة في سائر المحافظات اللبنانية، بحيث ينضبط قصّابون في النبطيّة أو الضاحية بفتوى «القائد» حول اللحم، بل يعتبرون تلك الفتوى الموقفَ الدينيّ الصائب والعالِم. أمّا «كشّافة المهدي» التي توجد حيث يقيم شيعة، فأطلقت مشروع مكتبة متنقّلة، وهي تنظّم رحلات إلى مراكز السكن الصغرى وصولاً إلى الشمال، مزوّدة بأجهزة كومبيوتر وكتب إسلاميّة، وجاذبة أعضاء جدداً. وبما يكمّل وظائف الحزب الأخرى، بنت الكشّافة تلك مدينة الخميني الكشفيّة وفيها مركز رياضيّ وأدوات تمرين وقاعة للدروس الدينيّة ومساحة خضراء بمساحة 26 ألف متر مربّع.

وكما يحتلّ «الشهيد» في الثقافة الحزب-اللهيّة موقعاً منزّهاً، فإنّ «الجريح» يحتلّ أيضاً موقعاً متقدّماً. هكذا حضرت صورة أبي الفضل العبّاس، شقيق الحسين، الذي تذهب الرواية إلى أنّه فقد يديه إبّان القتال، لكنّه مضى يقاتل إلى أن صُرع. فقد أُطلق اسمه على مراكز طبّيّة، فيما احتُفل أيضاً بحقيقة أنّ المرشد خامنئي قد جُرح، هو الآخر، في 1981.

وهناك الأمكنة التي ينبغي إرساء الوعي فيها وعليها. فجبل صافي، مثلاً، صار رمزاً لمقاومة الحزب، وخلال التسعينات بُنيت له طبيعة مقدّسة عبر الأغاني والقصص الرؤيويّة التي «حدثت» إبّان محاربة الإسرائيليّين. ويعزّز هذا التنزيه لأمكنة «جبل عامل» زعم وجود الأضرحة هناك. هكذا يشيع أنّ قرية الصرفند تحتضن ضريح أبي ذرّ الغفّاريّ. وكحال القدّيس غريغوري عند الأرمن، والقدّيس باتريك عند الإيرلنديّين، والقدّيس ديفيد في ويلز، وأضرحة العذراء ياسنا غورا في بولندا وعذراء الغوادلوب في المكسيك وسواهم، يتمّ إدراج تلك الأمكنة المقدّسة في بناء الهويّة والاستمراريّة القوميّتين.

جهاد متواصل

والحال أنّ تاريخ «جبل عامل»، وفقاً لسرديّة الحزب، تاريخ جهاد إسلاميّ متواصل، يبدأ مع بدايات القرن العاشر الهجريّ (السادس عشر الميلاديّ)، ومع «الشهيدين الأوّل والثاني»، الشيخين محمّد بن مكّي العامليّ وزين الدين العاملي، اللذين قتلهما العثمانيّون. ومذّاك هناك دائماً «عالِم» يفتتح بنضاله حقبة تاريخيّة.

وتتولّى «الدار الإسلاميّة» نشر الكتب التعليميّة التي تؤكّد على المقاومة وولاية الفقيه، وهناك كتب للأطفال بهذا المعنى. ويؤخذ في اعتبار المؤسّسات وكتبها مخاطبة البنات أيضاً: فمثلاً، وفي موازاة قصص ما قبل النوم، هناك سلسلة كتب تُعرف بـ «فاطمة» تنشرها «دار الولاء»، تدور أيضاً حول تعرّف فاطمة إلى الجهاد وولاية الفقيه.

وللجامعيّين يقيم «المركز الاستشاريّ للدراسات والتوثيق» ندوات وينشر كتباً وأبحاثاً تنسجم مع الإيديولوجيا الحزبيّة، وهو يملك مكتبة ضخمة في الضاحية الجنوبيّة لبيروت. ومع السنوات، ومع توسّعه الشعبيّ داخل الطائفة الشيعيّة، تمدّد الحزب من زعمه الأوّل تمثيلَ الفقراء والمسحوقين إلى مخاطبة الطبقات الوسطى أيضاً.

الآخر المتآمر

لقد ظهرت، منذ كتاب كوراني، كتب كثيرة في الخطّ ذاته، تتعامل مع انسحاب 2000 ثمّ مع حرب 2006، كما حوّلت قناة «المنار» بعض موجودات تلك الكتب إلى مسلسلات. وإذا كان من مواصفات الأعمال تلك اتّساعها للمزيد والمزيد من الخوارق والمعجزات، فإنّ إحدى وظائفها، في سياق بناء الهويّة، تحطيم الروايتين التقليديّتين المارونيّة والسنّيّة للتاريخ. وهذا، بين أمور أخرى، إنّما يستجيب مهمّات سياسيّة مباشرة وراهنة.

فجبل عامل، وجزئيّاً بسبب قربه من فلسطين، يحتلّ مكاناً مقدّساً منذ هجرة أبي ذرّ إليه. فهو تصدّى للصليبيّين، مؤسّساً «ثقافة المقاومة» التي تجد اليوم تتويجها في التدخّل في سوريّة. لا بل بدأت مقاومة الصليبيّين في طرابلس الشيعيّة، وإنّما بسبب المقاومة، حوصرت صور طوال 25 عاماً.

لكنّ صمود صور (الشيعيّة) لا يكتمل معناه إلاّ قياساً بالاستسلام السريع لصيدا (السنّيّة). أمّا صلاح الدين فأدّى نقصُ جذريّته إلى عقده معاهدة مع الصليبيّين. وهذا بينما تحدّت جزّين، الشيعيّة يومذاك، الصليبيّين وتمكنت من إنشاء مدارسها الدينيّة. وإذا كان لا بدّ من أبطال، فمعركة حطّين عرفت بطلاً عامليّاً، لم يعرف به أحد، هو حسام الدين بشارة. وهناك أيضاً رجل مُسنّ من صور حارب الصليبيّين وأحرق ثلاثة أبراج عسكريّة للأعداء.

أمّا قيادة «العلماء» فكانت محوريّة دوماً. فـ «التفاهم بين العلماء والأمراء»، أي بين ناصيف النصّار والسيّد عبد الحسن الحسيني، أثمر وضعاً شبه استقلاليّ لجبل عامل. وبدورهما أقام «الشهيدان الأوّل والثاني» حكومات إسلاميّة في مشغرة وجزّين، وهو ما فعله الشيخ زين العابدين بن بشارة في قرية زبقين.

كذلك يتلاحق الأبطال «الإسلاميّون» من ملحم قاسم إلى محمود بزّي، ومن أدهم خنجر إلى صادق حمزة اللذين قاوما في ظلّ قيادة «العلماء». ذاك أنّ الدور المركزيّ يبقى للمرجع عبد الحسين شرف الدين الذي عقد مؤتمر وادي الحجير، حيث تمّ التلاقي بين «العلماء» والمقاومة، كما أعلن الجهاد وتعرّض لمحاولة اغتيال وصمد قياساً بتخاذل الأمير فيصل.

في المقابل، فإنّ أبطال الرواية المارونيّة– الدرزيّة الذين وُظّفوا في صياغة الأسطورة المؤسّسة للبنان، كفخر الدين المعنيّ وبشير الشهابيّ، ليسوا أكثر كثيراً من جواسيس متعاونين مع الأجنبيّ ومتآمرين على المقاومين المسلمين. لكنّ الذين ثاروا على المظالم المصريّة كانوا «علماء» كالشيخ شبيب الصعبي. وكثيراً ما يُمحى تماماً الفارق بين «ثورة» و «انتفاضة» وبين اشتباك محلّيّ في قرية ما ضدّ جابي ضرائب.

وبدورها فحالات الفشل مردّها إلى آخرين، كالمسيحيّين في حسن استقبالهم القوى الأوروبيّة. مع هذا، فبعد أحداث 1860 التي صنعها الأجانب، استقبل جبل عامل اللاجئين المسيحيّين بالترحاب، إلاّ أنّ المسيحيّين ردّوا، في 1920، بأن تحالفوا مع الفرنسيّين، ثمّ في حرب السنتين بتهجيرهم الشيعة من النبعة.

وتعظيماً للدور الشيعيّ في «الثورة العربيّة»، يُركّز على الدور الكبير الذي لعبه اعتقال أدهم خنجر في بيت سلطان الأطرش في إطلاق تلك «الثورة». لكنْ لئن باتت الأخيرة موضوع تضخيم لها ولنتائجها وهزيمتها، ولإعدام الفرنسيين خنجر، فإنّ «العرب» لم يمدّوا يد المساعدة ولم يزوّدوا «الثورة» بالسلاح المطلوب. على أنّ هزيمة «الثوّار» في جبل عامل كانت التمرين الذي شجّع الاستعماريّين في ميسلون، ثمّ في الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين.

ومثلما كان خنجر وحمزة السبّاقين إلى مقاومة إسرائيل، فإنّ العداء المسيحيّ لهما كرّر نفسه لاحقاً في التحالفات التي عقدها المسيحيّون مع الإسرائيليّين الطامعين بجبل عامل. وكحال فخر الدين وبشير الشهابيّ، فإنّ الزعماء الاستقلاليّين تحفّ بهم شبهة الخيانة والتعامل مع إسرائيل: فبشارة الخوري، مثلاً، نوى التطهير الإثنيّ لشيعة جبل عامل وإحلال المهاجرين الموارنة محلّهم. ولم يتحدَّ هذا المخطّط المارونيّ– اليهوديّ إلاّ تصدّي جبل عامل ومقاومته.

ولا تنجو حرب 1958 الأهليّة من تأريخ حزب الله. فهنا يتمّ تبنّي الرواية السنّيّة لكنْ مع التشديد على التصدّي للإنزال الأميركيّ في زمن الاشتباك الأميركيّ- الإيرانيّ. إلاّ أنّ رواية كوراني تتجنّب الإشارة إلى أنّ التوتّر كان في المناطق السنّيّة أعلى منه في الشيعيّة، وأنّ كميل شمعون لم يكن عديم التأييد الشيعيّ، فيما الشيعيّ الأبرز في قيادة «الثورة» كان أحمد الأسعد.

فهنا أيضاً، في 1958، تبدأ الثورة، كما لو أنّها اختصاص حصريّ، في جبل عامل، ومنه تمتدّ إلى سائر المناطق الإسلاميّة.

ولئن هُزم «العرب» في 1967، فإنّ مقاومة جبل عامل هي التي دمّرت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر. في غضون ذلك، استقبل جبل عامل المقاتلين الفلسطينيّين «العلمانيّين» أحسن ما يكون الاستقبال، لكنّهم أساؤوا معاملة الشعب والقضيّة، وما لبثت قيادة «العلماء» أن صوّبت نهج «العلمانيّين».

أمّا اجتياح 1982، وهو المناسبة الحاسمة في نشأة الحزب، فتقول «حركة أمل» إنّ رواية الحزب عنه أغفلت دورها في معركة خلدة، وبالطبع أُغفل دور «المقاومة الوطنيّة» كلّيّاً. وفي مقابل انسحاب الفلسطينيّين وخيانة المسيحيّين، أرسل الخميني رسالة فاصلة إلى المسلمين لحظ فيها أهميّة المقاومة وخيانة العرب.

وإذ يختم كوراني كتابه بتسجيل تواصل الانتصارات إلى أن يحضر المهديّ، يكمل آخرون المهمّة: فالانسحاب الإسرائيليّ في 25 أيّار (مايو) الذي جُعل عيداً وطنياً، هو في وصف نصرالله «أحد أيّام الله»، وهذا قبل أن تنتهي حرب 2006 بـ «نصر إلهيّ». ذاك أنّ الحدث الأخير غيّر المعادلات الكونيّة وسجّل الانتصار على الولايات المتّحدة، وكي لا ننسى المقارنة، قزّم «انتصار» 1973.

وغنيّ عن القول إنّ المفاصل الأساسيّة في «التأريخ» الحزب- اللهيّ للبنان وللعالم العربيّ، بما في ذلك محاكمة رموزه وأحداثه، تستعيد السرديّتين القوميّة العربيّة واليساريّة مع تثقيل الوزن الشيعيّ و «العلمائيّ» في هذا التاريخ.

محمّد باقر مجلسي

ومع أنّ المبدأ الإسلاميّ مفاده أن القرآن معجزة الإسلام الوحيدة، ما حدا بكثيرين من مفكّري الإسلام للتصدّي للوعي الإعجازيّ، بما فيه الطبّ النبويّ الذي تصدّى له ابن خلدون، فإنّ مكتبات الحزب تزخر منذ سنوات بكتب الطبّ النبويّ.

وهذه عيّنة أخرى عن الأبواب التي فُتحت للخوارق في محاولة الحزب بناء الهويّة الشيعيّة الجديدة. على أنّ سرديّات الخوارق هذه إنّما تغذّت على الأعمال الفقهيّة لآية الله محمّد باقر مجلسي، صاحب «بحار الأنوار»، الذي عاش في بواكير العهد الصفويّ. وقد أعيد في إيران إحياء تقليد مجلسي الذي سبق لعلي شريعتي أن كتب مطوّلاً في نقده وتسخيفه. وكما في إيران، إبّان الحرب مع العراق حيث استُحضرت الخوارق والأئمة بغزارة إلى ساحات القتال، كذلك الحال مع حزب الله الذي استحضرهم أدواتٍ سياسيّة لتعبئة القطاعات الأبسط والأقلّ تعلّماً من جمهوره.

لقد عمل مجلسي على ربط الأئمة بالمَلكيّة الإيرانيّة، عبر التوكيد على زواج الحسين من ابنة يزدجرد الثالث، آخر ملوك الساسانيّين، كما حوّل الموقف السلبيّ من عمر بن الخطّاب إلى همزة وصل بين الفارسيّة، حيث فُتحت فارس في عهده، والشيعيّة، إذ يُفترض أنّه كان خصماً لعليّ بن أبي طالب.

وما حصل في حالتي إيران، الصفويّة والخمينيّة، وحزب الله، شبيه بتخلّي قادة الكنيسة عن مكافحة الخرافة حين تبدّى لهم أنّ تلك الخرافة باتت تخدم مصالحهم. فمجلسي كان ارتداداً عن جهود فقهيّة مستنيرة للشيخ مفيد ولشريف مرتضى (القرن 11) اللذين حاولا تطهير الفقه من نسبة الخوارق إلى الأئمة. لكنْ بعد ستّة قرون ارتدّ مجلسي عن الأعمال السابقة ليؤسّس التقليد الخرافيّ الشعبيّ في الفقه الشيعيّ ويصلّبه، موزّعاً الإعجاز بين الأئمة والحكّام. وقد سكّ شريعتي تعبير «الشيعيّة الصفويّة» كنقيض لـ «شيعيّة علي»، ساخراً من مجلسي بوصفه الإمام الثالث عشر.

لكنْ لأنّه عاصر خمسة شاهات صفويّين، فيما كان من الصعب على عامّة الفرس قراءة النصوص الجدّيّة التي انتقلت من جنوب لبنان إلى إيران، باتت المجلسيّة، المدعومة من السلطة، أشبه بثقافة شعبيّة ودينيّة.

ولئن استطاعت المراكز الشيعيّة في النجف وقم إضعاف المجلسيّة وتأثيراتها في القرن التاسع عشر، فإنّها عاودت ازدهارها مع الشاهين رضا ومحمّد رضا بهلوي، على رغم ادّعاءاتهما «الحضاريّة» والتغريبيّة، ثمّ خصوصاً بعد الثورة، مع محمود أحمدي نجاد المتأثّر بآية الله مصباح يزدي، المتأثّر بدوره بالمجلسيّ. وهذا الانبعاث انعكس بقوّة على لبنان عبر حزب الله الذي روّج وضخّم خرافة «الكرامات»، أي البركات الإعجازيّة، وأهمّها طبعاً كرامات رؤية الإمام الغائب والخميني الذي تُرسم له صورة تجعله يتاخم الأنبياء والمعصومين. والمقارنات، هنا، لا تُجرى فقط قياساً بمعجزات حدثت في حروب سابقة خاضها الأنبياء والرسل، بل يتمّ التوسّل أيضاً بأدوات غير إنسانيّة، كالطبيعة والأشياء. فلقد فوجئ، مثلاً لا حصراً، مقاتل في بنت جبيل بأنّ مدفعه مضى يمطر الأعداء بالقذائف بعدما تركه من دون تلقيم.

وعلى هذا النحو، نجدنا أمام خليط من خرافة وتلفيق واستسهال وصورة عن الذات كاملة الأوصاف لم ترتكب أيّ خطأ في تاريخها، ناسبةً كلّ العيوب والقصور إلى آخرين، وناسفةً كلّ ما ارتكز عليه هذا البلد كي يكون بلداً. وهذا ما لا يقلّ خطره عن خطر السلاح.