&
صدر مؤخراً (2017)، عن دار المدى، كتاب بعنوان:<مذكرات نصير الجادرجي: طفولة متناقضة ، شباب متمرد، طريق المتاعب>، وقد جاءت المذكرات بـ 494 صفحة من القطع المتوسط. تسرد احداث المذكرات "سيرة" احد رجالات العراق المهمين، هو الاستاذ نصير الجادرجي (1933)، (نجل السياسي العراقي المعروف كامل الجادرجي 1897 – 1968، وشقيق المعمار الرائد رفعة الجادرجي 1926، اطال الله في عمره). انها ليست مجرد سيرة شخصية لواحد من ابناء الطبقة الوسطى المتنوريين، وانما هي "سيرة" وطن، وهي ايضا سيرة نضال وطني امتد لستة عقود، هي ذاتها الفترة النشطة من حياة& نصيرالجادرجي السياسية ،التى كرس لها المؤلف صفجات المذكرات؛ انها في الاخير سجل "وثائقي" لجميع الاحداث و"المنعطفات" الكبرى الحاصلة في& تاريخ العراق المعاصر، والتغييرات المختلفة التى شهدها نظامه السياسي، من الملكي الى الجمهوري مرورا بالديكتاتورية البغيضة، ووصولا الى احداث عام 2003، التى كان نصير الجادرجي فيها جميعاً شاهدا على احداثها الدراماتكية، واحيانا مؤثرا فيها وعلى مسارتها المتنوعة! من هنا، تنبع، في اعتقادي، أهمية تلك المذكرات وقيمتها التاريخية والوثائقية، واهمية العبر والدروس المستخلصة منها، هي التى جاءت في سرد مشوق وممتع في آن، للاحداث التى مر بها الوطن، و"شاهدها" شخصيا صاحب المذكرات.
يبدأ نصير الجادرجي، في تدوين مذكراته، بالاشارة الى واقعة ميلاده، التى دونها والده في اوراق مذكراته الشخصية: "ولد نصير، في اليوم الثاني عشر من شهر آب لسنة 1933، في الساعة السابعة والدقيقة الاربعين بعد الظهر"! (ص 19). وأحسب إن& قارئ المذكرات، سوف لن يمرّ، مثلي، مرّ الكرام (كما يقال) ، على مفردات هذه الجملة، المستلة من اوراق كامل الجادرجي. اذ يا لها من "دقة"! يا له من ضبط!. ففي الوقت الذي "يجهل" كثراً من العراقيين& (سنة) ميلادهم، تُقرأ كلمات تلك الجملة، وكأنها في بلد آخر، وفي مكان آخر، وهي تحدد بدقة متناهية "توقيت" ميلاد نصير. واذ عرفنا باننا نتحدث عن زمن بداية الثلاثينات، فان الحدث اياه، يكتسب أهمية مضافة. ولئن اشير الى ذلك الحدث، هنا، فما هذا،& سوى دليل ناصع عن اهمية الدقة، وقيمة الزمن، ومقدار الحرص الذي ينطوي عليه& "سلوك"& منظومة العيش في تلك العائلة المتنورة؛ التى تمنح الوقت قيمته وأهميته. وسنقرأ، لاحقاً، في المذكرات، تأثير هذا السلوك على تصرف شخوصها، وانا اعني تفاصيل اللقاء المثير الذي جمع كامل الجادرجي مع عبد الكريم قاسم، الذي جاء في بعضه بالمذكرات وكما يلي ".. قال والدي، كنت اسمع كثيراً عن لقاءات السياسيين بالزعيم عبد الكريم قاسم...، وقال بانه يعرف عن قاسم تعمده إبقاء من يطلب لقائهم لفترة طويلة في الصالة قبل دخولهم اليه لمقابلته، وقد امتد الوقت بالبعض لاكثر من ساعةـ لكني (والكلام للوالد)، اتخذت قراراً بان لا يطول انتظاري له لأكثر من (خمس دقائق)، وبعدها اغادر مهما كان، حتى لو خرج إليَ بنفسه، طالما انه هو من طلب لقائي وليس العكس....جلست في غرفة المرافقين واخرجت ساعتي من جيبي واضعا اياها نصب عيني، لِعّد الدقائق الخمس التى قررتها، لكن (الميل) لم يكن قد اجتاز أولها حتى دخل عبد الكريم قاسم الى غرفة المرافقين التى كنت فيها، وابدى ترحيبا كبيرا بي طالباً مني امام الجميع الدخول الى غرفة مكتبه..." (ص. 229 -230). وتدلل هذه الحادثة، (مع غيرها المنشورة في الكتاب)، فيما تدلل، على أهمية "الوقت" المتاح، وعدم التفريط به وتركه سائباً. واعتقد بان الالتزام بهذا العرف ربما انعكس ايجاباً على البلاد، لو ان كثراً من المعنيين بالشأن العام في العراق، ابدوا حرصا مماثلا، لما قدمه من "مثال" كامل الجادرجي؛ الذي جعل من قيمة الوقت والاعتناء به، شرطا لازما واساسيا في منظومة السلوك الشخصي.
يمكن تقسيم محتويات كتاب "المذكرات" الى قسمين اساسييّن، الاول، خاص بذكر الاحداث السياسية المهمة التى مرت على العراق، وساهم صاحب المذكرات فيها بشكل وبآخر. والقسم الآخر:الثاني، متعلق بما هو شخصي وذاتي. في القسم الاول، يطلعنا المؤلف على احداث كبرى شهدها الوطن، تمثل بمجموعها "صفحات" من سجل تاريخ العراق المعاصر. فنطلع على وقائع وثبة كانون 1948، ومشاركته فيها، رغم عمره الصغير وقتذاك، وتلقيه انذاراً رسمياً من مدرسته بداعِ تحريض الطلاب في الاشتراك في التظاهرات الشعبية (ص. 49). كما يسرد احداث عام 1952، واجتماع البلاط العاصف بين الوصي والسياسيين العراقيين، وما تلاه من انتفاضة تشرين 1952، التى ساهم طلبة العراق بها وبديمومتها ، بضمنهم كاتب المذكرات شخصياً. بعد ذلك ينتقل نصير الجادرجي لتذكيرنا باحداث عام 1956،& وما تلاها من انتفاضة، اثر العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الثاني من تلك السنة. ثم يتابع& في سرد مذكراته ويتوقف عند ثورة 14 تموز 1958، والتأثيرات الكبرى التى احدثتها في المجتمع العراقي. ينتقل الكاتب، بعد ذلك، الى ذكر واقعة الانقلاب& الدموي في 8 شباط 1963، الذي قام به البعثيون، ضد نظام عبد الكريم قاسم، وما تلاه من اضهاد واستبداد وسجن وتنكيل بممثلي القوي الوطنية، التى لم يعرف العراق مثيلا لها في قسوتها وشدة عنفها وجورها. ويستمر الاستاذ نصير الجادرجي في تسجيل "شريط" مذكراته، فيذكر انقلاب 1968 ، الذي اتي بالبعثيين مرة اخرى الى السلطة، وهو في هذا الفصل الذي عنونه بـ "الحياة تحت ظلال خيمة سوداء" (ص. 303)، يتحدث الكاتب عن احداث ووقائع مريرة، كُتب على العراقيين ان يكونوا "وقودا" لها ولنتائجها الكارثية، فيذكر حادثة استيلاء صدام على السلطة، ومن ثم بدء حرب الثمانينات العبثية وفواجعها، ويشير الى "غزوة" الكويت المشينة سنة 1990؛ وما تبعها من حصار شديد، ارجع البلد عقودا كثيرة الى الوراء. ويقف طويلا عند احداث 2003، وسقوط النظام الديكتاتوري، وما بعد ذلك التاريخ، حيث افرد لها فصلا رئيسيا وواسعا من المذكرات وهو الفصل الرابع.&
يتحدث نصير الجادرجي عن كل هذه الواقع التى مرّ بها الوطن في العقود الاخيرة، سارداً احداثها، ومتأملاً اسبابها، ومعللاً نتائجها بصدقية عالية، وصراحة تامة. وربما وجد بعض قراء مذكراته، ممن لا يتفق مع طروحاته وآرائه في ذلك التقييم او الاستنتاج، بيد ان واقعية كلماته ورجاحة المسوغات التى يشير اليها ويعتمد عليها، تجعل القارئ، يحترم رأيه ويتعاطف مع طروحاته، رغم انه، احياناً، قد لا يتفق معه. فعلي سبيل المثال، يتناول الجادرجي "واقعة" مهمة،& ما برحت تثير قدرا كبيراً من الالتباس والجدل حولها، وانا اعني "احداث عام 2003" التى غيرت كثيرا من وجه العراق. يكتب نصير الجادرجي عن تلك الاحداث ما يلي "...في 21 / 4/ 2003ـ عدت الى بغداد عبر البّر...(وكانت) قوات الجيش الامريكي تهيمن على شوارعها وسط الخراب الذي حل بمنشآءاتها الحيوية من جهة، وفرحة الشعب العراقي بالخلاص من النظام الديكتاتوري المستبد الذي اوصله الى تلك الحالة من المآسي والخراب وازهاق ملايين الارواح". "... قد يسأل من يقرأ هذه السطور الآتية من شخص ناضل في مطلع شبابه ضد الاستعمار والهيمنة الاجنبية على وطنه، وهو سليل اسرة وطنية، قضى والده الكثير من سني عمره متنقلاً بين السجون والمواقف والحظر والمحاكمات في سبيل قضية وطنه واستقلاله،& ونيل شعبه لحقوقه كاملة، وأهمهما الحرية؛ عن سر قبوله للأمر الواقع من وجود لقوات اجنبية تهيمن على بلده، بعد كل تلك السنين من النضال والطموح. فأقول تجاه ما رأيت حينها بان (الانسان أهم من الارض)، إلا في حالة ان تكون (الارض) هي المحور، والنقطة المركزية لنضال الشعب ووحدته من اجل تحريرها واستعادتها من المستعمر والدخلاء عليها كقضية فلسطين ووجود (داعش) في المحافظات العراقية، وآخرها مدينة الموصل". "...لكن اذا فقد الانسان حريته وكرامته وانسانيته من جانب المستعمر او <من جانب ابن البلد> (التأكيد لي، خ. س.)، فهو اضطهاد على حدِ سواء. كما ان المحتل لا يمكنه البقاء لفترة طويلة لاسباب كثيرة، لذلك رايت حينها ان ما حدث، رغم مآسيه، قد يكون فيه خلاص للعراق من نظام كريه عاث بشعبه وارضه، طيلة 35 سنة. وهو من يتحمل مسؤولية احتلال بلدنا وليس نحن". (ص335-336).&
وارى ان ما اورده نصير الجادرجي، اعلاه، يتسق مع اراء كثرمن الناس الذين "عايشوا" ويلات الديكتاتورية وزمنها، وانتظروا يوم الخلاص منها ومن استبدادها. وازعم، باني احد من ضمن اولئك "الكثر"، الذين ذكرتهم. واضافة "اسمي"، هنا، لا يعني، اضفاء مصداقية زائدة لما ذكره الجادرجي، وانما اراه تعبيراً واقعياعن رأي كثير من العراقيين، عرفتهم شخصياً وتحدثت كثيرا معهم حول هذه القضية تحديداً.&
في القسم الشخصي من المذكرات، يقدم نصير الجادرجي نفسه لقرائه الكثر، ويسعى وراء تبيان افكاره لهم. وهو امر منطقي يتسق مع خصوصية كتابة "المذكرات". ويشي غلاف الكتاب، بفكرة دعوة قراء المذكرات ليكونوا ضيوفا وشهوداً" على ما مرّ به هذا الشخص المتنور. وقد نجح مصمم غلاف الكتاب، ايما نجاح، باعتقادي،& عندما اختار صورة "باب بيت العائلة"، نصف المفتوحة،& التى يقف عند عتبتها "كاتب المذكرات"، ناظرا في اتجاه قرائه الكثيرين، راجياً منهم "التفضل بالدخول" الى بيته و سكناه! واذ نزداد معرفة "بشخصية" الكاتب/ المُعزّب، (كما يقول "اهلنا" في الصويرة!)؛ وندرك ،من خلال صفحات المذكرات طبائع "الرجل" ونجاحاته واخفاقاته، فاننا ايضا، نتعرف على افراد عائلته الكرام، الذين يتحدث عنهم نصير بمودة عميقة وبحب صادق واحترام كبير. فيذكر والدته "منيبة آصف آغا"، ويصفها "..بالانسانة، التى قدمت لاسرتها الكثير طيلة حياتها، وقد كانت امرأة عراقية متفانية جدا في منزلها ومع زوجها وابنائها.." (ص. 326). كما نتعرف على زوجته "أميرة الرفيعي"، ومعااتها مع المرض الذي اودى الى وفاتها (ص. 423)، كما نلم، ومن خلاله، على اخبار شقيقته "أمينة" واشقائه : رفعة، وباسل ويقظان، وكذلك على ابنيّه: سليمان وكامل (والاخير، اعرفه جيدا، بحكم انه كان احد "طلابي" بقسم العمارة في جامعة بغداد)، وابنته "مي" و<رفضها> الشجاع في الانتماء الى حزب البعث، حزب السلطة وقتها، ومعاناتها (كأي عراقي اوعراقية آخرى)، في تحصيل واستلام شهاداتها الرسمية (ص. 322- 324).&
يرد كثيرا في صفحات المذكرات، اسم والده: الشخصية الديمقراطية العراقية المعروفة "كامل الجادرجي" ("كامل بك"، كما يحلو لاصدقائة ومحبيه و"تلامذته" ان يدعوه)، وهذا ليس بغريب. فنصير يعتبر والده ليس فقط اباً، وانما قدوة، "وصديق"، ورجل دولة، وزعيم حزب، ذا نظرة ثاقبة للامور، وقابلية كبيرة في تحليلها والتنبؤ بحدوثها. ويشير في المذكرات، الى الحفل التأبيني لاربعينية الفقيد "كامل الجادرجي"، الذي اقيم في قاعة الخلد يوم 12 نيسان 1968،. وقد ابانت هذه الفعالية، مثلما اظهر الحضور الكثير فيها، بشكل جليّ، منزلة الفقيد واهميته في الحياة السياسية التى كان فيها كامل الجادرجي رمزا للنضال وللحرية، وللديمقراطية، وللوطنية، ولاحترام القانون. ففي ذلك الحفل، اكتظت القاعة على وسعها باصدقاء ورفاق ومحبي "كامل بك" (وقد حضرتها شخصيا، وقتذاك، وشاهدت بام عيني مدى الاحترام والتبجيل الذي قدمه جميع الحضور لاسم وشخص كامل الجادرجي ولنضاله الطويل، ولمنزلته العالية، التى يستحقها، في قلوب العراقيين).
من ثنايا صفحات المذكرات، نطلع على علاقات نصير الجادرجي الواسعة مع ناس عديدين، ذوي خلفيات مهنية متنوعة. فطبيعته الآسرة المجبولة على بساطة غير متكلفة، وتواضعه الجم، وخلقه المنطوي على طيبة ، وسماحة، واحترام للآخر، اهله من "نسج" مثل تلك العلاقات والصلات المتشعبة؛ لكن علاقته بالمثقفين، وخصوصا المثقفين العراقيين، تغدو عنده ذات منزلة خاصة، ومدار سرور له (وازعم مدار سرور للمثقفين ..ايضاً). يتحدث نصير عن علاقته الوطيدة مع شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري، ومع الشاعر مظفر النواب والكاتب غائب طعمة فرمان، والشااعر بلند الحيدري، والمسرحي يوسف العاني، والفنان محمد غني حكمت، والفنان ضياء العزاوي، والفنان سعدي الحديثي وغيرهم كثير. يطلعنا "نصير"، ايضاً، على صلاته المتينة مع اصدقائه الكثر، لكنه يصطفي، على وجه التحديد، اثنين منهم، رافقاه لفترة طويلة من عمره ولا تزال رفقتهما مصدر اعتزاز ومودة كبيرتين بالنسبة اليه، وهما& "عبد الرزاق السعيدي" و"هاشم الشبلي" اذ يضفي عليهما وعلى سيرتهما كثيرا من المودة والتقدير، وقد بلغ من اعتزازه بهما، بحيث عندما اهدى كتابه "المذكرات" الى افراد عائلته، جعلهما من ضمن الاسماء المُهدى اليهم "الكتاب". (بالاضافة الى صديقه الثالث <الراحل> رؤوف عبد الرزاق آل دبيس)، مسمياً اياهم <باصدقاء العمر>. وقد تشرفت، شخصياً، بالتعرف عليهما في شقة نصير الجادرجي، وانا جد مسرور، وممتن له، لهذا التعارف.&&
لقد استمتعت، حقاً، بقراءة "مذكرات "نصير الجادرجي"، وقد جعلت من شعور متعة القراءة اياها، ملازمة لي لاطول فترة زمنية. اذ حرصت على ان "اطالع" صفحات محددة مساء كل يوم، لاكتشف ملياً من خلالها "معدن" هذا الرجل النبيل، الذي اكن له الاحترام العميق، واحرص على زيارته في شقته "العمانية، كلما اكون في الاردن.
لقد اهدى "نصير الجادرجي" لنا كتاباً مميزا: مفيداً وهاماً (ومشوقاً...ايضاً!) يتعاطى بصدق وموضوعية، مع تاريخ العراق المعاصر؛ مسجلا بصورة وثائقية احداثه الكبرى، كما التقطتها ذاكرة الجادرجي المتقدة. بيد ان رأيه الشخصي وتحليله الذاتي لتلك الاحداث، لا يقلان اهمية ومنفعة من "سردية" تلك الاحداث التى صاغت نتائجها، في الاخير، ماضي وطننا، وحاضره، وتنبأت ...بمستقبله! ومن هنا تنبع اهمية هذه المذكرات، ومن هنا، ايضاً، تكمن، كما اعتقد، ضرورة قراءتها والاطلاع عليها!
معمار وأكاديمي