&

&كان الفرنسيّ بوريس فيان (1920-1959) فنّانا متعدّد المواهب. فقد كان روائيّا،وشاعرا، ورسّاما، ونحّاتا، وموسيقيّا، ولاعب شطرنج ماهرا، ومترجما قديرا من اللغة الانجليزية. وفي عام 2009، صدرت أعماله ضمن سلسلة "البلياد" المرموقة المتخصّصة في اصدار أعمال المشاهير من الكتاب، والشعراء، والفلاسفة من مختلف الثقافات، والعصور.. ولهذا أكثر من معنى. وأوّل هذه المعاني هو الإعتراف بموهبته الكبيرة، وبأهمية اعماله خصوصا وأنه لم ينل الشهرة التي يستحقها عندما كان على قيد الحياة. وثاني هذه المعاني هو أن سلسلة "البلياد" بدأت تهتمّ بمن كانوا مهمشين، ليس فقط بسبب الأساليب الغريبة التي طبعت كتاباتهم، أو بسبب المواضيع التي تطرّقوا إليها، والتي اعتبرت "شاذّة" من قبل النقاد، وإنما أيضا بسبب نمط الحياة الذي اختاروها لأنفسهم، والذي كان "خارجا عن المأولوف".
&
وكان بوريس فيان واحدا من الكتاب القلائل الذين أبدعوا أعمالا غريبة في شكلها، وفي مضمونها، لذلك ظلّت "منبوذة" لسنوات طويلة، ولم يكتشف النقاد، والقرّاء معانيها إلاّ بعد رحيل صاحبها بأكثر من عقد. كما أنه-أي بوريس فيان- عاش حياة صاخبة في "حيّ السان-جارمان دي بريه" في باريس. وكانت سهراته مع سارتر، ومع سيمون دي بوفوار، ومع عشّاق موسيقى الجاز التي كان يتقن عزفها، ومع المصابين بحمى الإبداع والفن، وتوليد الأفكار الطلائعيّة، تستمرّحتى الصباح. وأمام الإيديولوجيات بجميع أصنافها، لم يكن بوريس فيان يتخلّى عن سخريته اللاذعة تجاهها. وهي سخرية لازمته من البداية إلى النهاية. وكانت سلاحه ضدّ كلّ ما يتعارض مع حريته، وأسلوبه في الحياة. عنه كتب فرانسوا بوسنال يقول:”لقد كان بوريس فيان كاتبا متعدّد المواهب، غزير الإنتاج، محموما، وقادرا بطريقة عجيبة على أن ينتقل من الرواية إلى الأوبرا، ومن المقال المتعلّق بالموسيقى إلى الأقوال المأثورة.إنّ فيان هو انتصار الإستعارة..وهو مبتكر للغة حافظت على حداثتها إلى حدّ هذه الساعة. وهو السخرية التي تضع الديناميت في القوالب الأكاديمية الجامدة. وهو الشعر في شكله الخالص".
&
وقد ولد بوريس فيان في باريس عام 1920. وفي طفولته أصيب بداء القلب الذي سيقتله مبكّرا مثلما هو حال مبدعين آخرين. وَحَادسا أن حياته سوف تكون قصيرة، ظلّ حتى النهاية يعمل بشكل محموم، معتبرا أن كلّ يوم يعيشه هو لصالحه. ومبكرا قرأ الكلاسيكيين الكبار أمثال راسين، وكورناي، وموليير، وهو دون سنّ العاشرة. كما قرأ رامبو، وبودلير، وفلوبير، وفرلين. إلى جانب الأدب، عشق بوريس فيان الموسيقى أيضا.. فقد كان والده مغرما بالموسيقى الكلاسيكية، وبالموسيقى الحديثة. وكان أخوه الأكبر متخصّصا في صنع الآلات الموسيقية. وفي ما بعد، سيصبح بوريس فيان واحدا من ألمع الموسيقيين الفرنسيين في مجال الجاز القادم من وراء المحيط الأطلسي. وبعد الحرب الكونية الثانية، أصبح يلقّب ب"أمير السان جارمان-دي بريه"الذي كانت مقاهيه تستقبل المشاهير ، وفي مقدمتهم جان بول سارتر،، وأيضا أصحاب التقليعات الجديدة في مجال الفن والأدب والفلسفة والرسم.
&
وخلال سنوات "السان جارمان-دي بريه" الصاخبة، والمحمومة، تعرّف بوريس فيان على ميشال لوغليز التي ستكون زوجته الأولى، والتي سيكتب لها روايته :”زبد الأيام". وقد كتب عن هذه الرواية يقول: ”هناك سعادة كبيرة في “زبد الأيام”.ثمّ هناك الخطر الصغير للرجل الذي يشعرأن شيئا ما ينتصب. شيئا يعذّبه من الداخل”. ولم يكن هذا الشيء الذي يعذبه من الداخل غير الموت الذي كان يعلم جيّدا انه لن يمهله طويلا! وكانت ميشال تساعده كثيرا في أعماله الأدبيّة، والفنيّة. وهي التي عرّفته بكبار الأدباء الأمريكيين، والبريطانيين الذي سيفتحون أمامه آفاقا جديدة في مجال الكتابة. وهي التي كانت تقدّم له نصائح ثمينة في الترجمة من لغة شكسبير إلى لغة موليير. ومفتونا بالروايات البوليسية ألأمريكية، رغب بوريس فيان في كتابة روايات مثلها مختارا لنفسه اسم"فارنون سيلفان". وبهذا الإسم، كتب العديد من الروايات ذات المنحى البوليسي مثل "سأذهب لأبصق على قبوركم"، التي صدرت عام 1947. وقد أثارت هذه الرواية التي تسيطر عليها نوازع العنف والجنس، ضجّة هائلة في الأوساط الأدبية الفرنسية. وكان غرض بوريس فيان الأساسي من هذه الروايات، هو إثبات قدرته الفائقة على "اللعب" في جميع المجالات، وعلى اختراق الحدود الفاصلة بين مختلف أشكال التعبير.
&
وفي البداية اتسمت علاقة بوريس فيان بجان بول سارتر بالودّ والمحبّة. لكن عندما ارتبط هذا الأخير بعلاقة غرامية بزوجته ميشال، كفّ فيان عن الكتابة في مجلة "الأزمنة الحديثة"، وتزوّج من الراقصة اورسولا عام 1954 ليعيش معها سنوات صعبة تخلّلتها أزمات ماديّة ونفسيّة حادة. وخلال الحرب التحريرية الجزائرية، كتب بوريس فيان قصيدة بعنوان "الفارّ من الجنديّة". وقد منعت هذه القصيدة من قبل الرقابة، مثيرة غضب الجنرالات الفرنسيين. وفيها يقول بوريس فيان:
&
سيّدي الرئيس أبعث لكم بهذه الرسالة
&
ربما ستقرؤونها إن سمح لكم الوقت
&
لقد تلقّيت للتّوّ أوراق الجنديّة
&
وعليّ أن أنطلق إلى الحرب
&
قبل الإربعاء مساء
&
وأنا لا أريد أن أفعل ذلك
&
لأني لست على وجه الأرض
&
لكي أقتل أناسا أبرياء
&
ولست أقصد إغاضتكم
&
لكن عليّ أن أقول لكم
&
بإن قراري اتخذ
&
وأني فارّ من الجنديّة
&
ومنذ أن ولدت
&
رأيت والدي يموت
&
ورأيت إخوتي ينطلقون إلى جبهات القتال
&
وأطفالي يبكون
&
وأمي كم تألّمت بسبب ذلك
&
هي التي في قبرها تسخر من القنابل
&
وتسخر من الدّود
&
وعندما كنت سجينا
&
سرقوا زوجتي
&
وسرقوا روحي
&
وكلّ ماضيّ العزيز عليّ
&
غدا باكرا في الصباح
&
ساغلق الباب في وجه السنوات الميّتة
&
وسأنطلق في الطرقات...
&
&
ومثلما ذكرنا، لم يهتم بوريس فيان خلال مسيرته الأدبية والفنية بالإيديولوجيّات التي كانت سائدة آنذلك، بل ظلّ محافظا على استقلاليته حتى النهاية. وفي السنوات الأخيرة من حياته، عاش فترات مرّة من اليأس والإحباط بسبب عدم حصوله على الإعتراف بموهبته العالية، وبأعماله من قبل المتحكمين في الحياة الثقافية الفرنسية في ذلك الوقت..ولعلّ ذلك كان أحد العوامل التي عجلت بوفاته وهو في التاسعة والثلاثين من عمره!