ينظم بيت الشعر في المغرب، اليوم (الخميس)، بالرباط، حفلاً ثقافياً وفنياً تُسلَّم، خلالَهُ، جائزة الأركانة العالمية للشعر، في دورتها الحادية عشرة، للشاعر المغربي الكبير محمد بنطلحة.

وسيكون هذا الحفل، الذي ينظم برعاية رسمية من مؤسسة الرعاية لصندوق الإيداع والتدبير، وبتعاون مع وزارة الثقافة، والذي يُقام بمصاحبة إبداعية من الفنان مجيد بقاس وفرقته الموسيقية، "فرصة لاحتفاء المثقفين والمبدعين وسائر عشاق الشعر مع بيت الشعر في المغرب بالتجربة الباذخة التي قدمها الشاعر محمد بنطلحة للشعرية المغربية والعربية والإنسانية، طيلة عقود من العطاء الجميل المتفرد"، كما جاء في بيان للمنظمين. كما سيوقع الشاعر المُحتفى به، في ختام الحفل، أعماله الكاملة التي أصدرها بيت الشعر في المغرب، بالمناسبة، بدعم من وزارة الثقافة، في 664 صفحة من القطع الكبير.

محاورة شعريات عالمية

غلاف الأعمال الكاملة للشاعر المغربي محمد بنطلحة

جاء في حيثيات تقرير لجنة تحكيم جائزة الأركانة العالميّة للشعر أن الشاعر محمد بنطلحة "فتحَ، بتجربَتِه الشعريّة، أفقاً كتابيّاً ارتقى باللغة العربيّة إلى مَدَارجَ عُليا في التركيب والتخييل والمعنى، وأسْهمَ في تَمْكينها من مُحاوَرَة شعريّات عالميّة، برُؤية حداثيّة تنتصرُ للخيال والجَمال والحُلم والمُستقبل".

ورأت اللجنة أن بنطلحة "يَكتبُ قصيدتَهُ بكامل التأنّي الذي يُوجبُهُ الصّبرُ الشعريّ"؛ وأنه "في هذا الصّبر الشاقّ والنّتوج، يَمحو الشاعر في كتابَته الشعريّة أكثر مِمّا يُبقي، أو على الأصحّ، فهو يُبقي ما يُبقيه من كتابتهِ ماحياً. ليس المَحوُ والإثبات فِعليْن مُنفصليْن في شعره. إنّهما مُتشابكان، على نحو شديد التعقيد". لذلك شددت اللجنة على أن الكتابة عند بنطلحة لا تستقيمُ إلاّ "بالمَحو. منه تأتي. وما يَتحقّقُ منها هو أيضاً انتسابٌ في ذاته إلى المَحو، بحُكم سَرَيان الصّمت في هذا التحقّق. هكذا كان مُنجَزُ الشاعر محمد بنطلحة حاملاً، في تركيبه وإيقاعه وتخييله، آثارَ مَحو كتابيٍّ ومعرفيٍّ عنيد لا يَتساهلُ في العمل على اللغة، حذفاً وتشطيباً وتعديلاً وتكثيفاً، بغاية التّوَغّل باللغة الشعريّة نحو المجهول، الذي يَحتاجُ بلوغُ مَشارفه اختراقَ العديد من التراكيب والتخلّي الصّارم عن كلِّ صوْغ جاهز وعن كلِّ معنى مُسبّق. لا شيءَ مَعروضٌ في الطريق نحو الشعر، التي اختارَها الشاعر محمد بنطلحة وسَلكها عبر محطّات يَشهدُ عليها كلُّ عَمَل شعريّ من أعماله".

ورأت اللجنة أنه "في هذا التّوَغّل نحو المَجهول، يكونُ الشعرُ مَنذوراً لأن يَمحوَ أكثر مِمّا يُثبت. الطريق إلى الشعر، التي اختارَها الشاعر محمد بنطلحة، هي عينُها التصوّر الذي يُضمرهُ الشاعر عن الكتابة الشعريّه. إنّها طريقٌ وَعرة، لا تجودُ بشذورها الخبيئة إلاّ باتخاذ المَحو دليلاً إلى ما تقودُ إليه. وما تقودُ إليه هو أساساً كثيفٌ، ولا يُمكنُ أن يكونَ إلاّ كثيفاً، لأنّه نادر. والنادر لا يكون كثيراً، لأنّه يَبني لذاته معنى آخَرَ خارج المعنى الكمّيّ والعامّ للقلّة والكثرة. لذلك أعلنَ الشاعر، في تسميةِ مجموعةٍ شعريّة كاملة، شَغفَهُ بالاستزادة من القليل، وشغفَهُ بالإقامة في القليل لمّا صرّحَ في عنوان هذه المجموعة قائلاً: "قليلاً أكثر". كأنّه يقول: إليّ أيّها القليل النادر. الطريقُ إلى هذا القليل الهائل مَوشومةٌ في المَسار الكتابيّ للشاعر محمد بنطلحة لا بما احتفظَ به في أعماله الشعريّة وحسب، بل بالصَّمت الذي تَسَرَّبَ إلى بنائه الشعريّ، شاهداً على ألَمِ الحَفر عن المُنفلت واللانهائيّ. فالرّهانُ على المُنفلت واللانهائيّ لا يُمكنُ أن يَجود إلاّ بالقليل، لكنّه القليلُ الهائلُ، الشبيهُ بشذور الذهب، القليلُ المَنذور لأهله وحُرّاسه وأصفيائه".

 معرفة خصيبة

وزادت اللجنة قائلة إن تجربة محمد بنطلحة الشعرية "تنطوي على معرفة خصيبة، لا لأنّها تَبني نصوصَها بالإصغاء إلى التجارب العالميّة الشعريّة وحسب، بل أيضاً لأنّها تبني تصوّراً عن المعنى الشعريّ ظلَّ دوماً حاملاً لدمغة الشاعر"؛ ولذلك، فـ"إنّ الجهدَ الكبير، الذي يَبذلهُ الشاعر محمد بنطلحة في بناء المعنى الشعريّ، لا يطرحُ فقط سؤالَ كيف نقرأ المعنى في أعماله، بل يَطرحُ أساساً تصوّراً خصيباً عن المعنى الشعريّ ذاته، عبْر خلخلةِ الطرق التقليديّة في تحقّق المعنى. تصوّرٌ يقومُ على تعارُض مع تصوّرات أخرى، لأنّه يَصلُ المعنى الشعريّ بمَجهُول لا حَدَّ له، فيه يَستضيفُ الشعرُ الغامضَ والمُتملّصَ، على نحو جَعلَ المعنى مُتملّصاً دَوماً من التصنيفات. لا ضِفافَ للمجهُول الذي فتَحَتْهُ تجربة الشاعر محمد بنطلحة للمعنى الشعريّ وهي تُقيمُ هذا المعنى على مشارف الغامض، الذي يُسائلُ اللغة والكائن".

صون المجهول الشعري

ورأت اللجنة أن بنطلحة مُنذ "نشيد البجع"، المجموعة الشعريّة الأولى، لم يَكفّ عن "صَون المجهول الشعريّ واكتشاف أراض شعريّة جديدة والتوغّل باللغة نحو كثافتها العُليا. ذلك ما رَسَّخَهُ في "غيمة أو حجر"، و"سدوم"، و"بعكس الماء"، و"قليلاً أكثر"، و"أخسر السماء وأربحُ الأرض"، و"رؤى في موسم العوسج" و"تحت أيّ سُلَّم عبَرْتُ؟"، مشيرة إلى أنه، في هذه الأعمال، تَوَجَّه إلى "ابتكار تركيب شعريّ مُختلف يَحتفي بالقدرات الكامنة في اللغة عندما تقتاتُ من اللعب والتجريد والمُغامَرة لتضعَ الجُملة الشعريّة دوماً في الحُدود القصوى للمعنى أو للامعنى".

لحظة مضيئة

الشاعر المغربي محمد بنطلحة

انتهت اللجنة، في ختام حيثيات فوز شاعر "نشيد البجع" بالأركانة، إلى أنّ التجربة الشعريّة لبنطلحة "لحظة مُضيئة في الشعريّة العربيّة المُعاصرة"، يحسب لها أنها اِنبَنت على "تفاعُل خلاّق لا مع الشعريّة العربيّة وحسب، بل أيضاً مع الشعريّات العالميّة، وتمكنّت من أن تنحِتَ لذاتها ملمَحَها الخاصّ، الذي يَحملُ دمغة الشاعر في بناء رُؤية شعريّة مُركَّبة، وفي النزوع الدائم إلى اكتشاف أشكال جديدة، وفي الانتصار الجماليّ للغة العربيّة".

تكريم رموز الشعر الإنساني

قبل بنطلحة، سبق أن فاز بجائزة الأركانة، التي تبلغ قيمتها المادية اثني عشر ألف دولار أميركي، والتي أطلقها بيت الشعر في المغرب عام 2003، شاعران مغربيان آخران، هما محمد السرغيني (2005) والطاهر بن جلون (2010)، علاوة على ثمانية من الشعراء العرب والعالميين، هم الصيني بي ضاو (2003) والفلسطيني محمود درويش (2008) والعراقي سعدي يوسف (2009) والأميركية مارلين هاكر (2011) والإسباني أنطونيو غامونيدا (2012) والفرنسي إيف بونفوا (2013) والبرتغالي نونو جوديس (2014) والألماني فولكر براون (2015).

وتكونت لجنة تحكيم لجنة تحكيم دورة هذه السنة من الشاعر محمد الأشعري (رئيساً)، وعضوية الشعراء رشيد المومني وحسن نجمي ونجيب خداري والناقدين عبد الرحمن طنكول وخالد بلقاسم.