للمدن أسرارها الكثيرة، وفي مقدمها أسرارها الديموغرافية التي تطرح أسئلة صعبة، بعدما تحول تبادل المجموعات البشرية بين منطقة وأخرى إلى سياسة تهجير قسري، تعيد بناء المدينة نفسها.
&
إيلاف: تتغيّر معاني الكلمات بشكل دائم، لكن ما حدث لـ "gentrification" هو حالة خاصة نوعًا ما. منذ وقت ليس ببعيد، كان مصطلح ذات قيمة محايدة يشير إلى عملية تبادل المجتمعات مجموعة من السكان في مقابل مجموعة أخرى.&

بروكلين الجديدة

أما الآن فيحمل معنى الخزي، وكلمة تستحضر إلى ذهننا التهجير القاسي الذي يتعرّض له الفقراء العزل من قبل النخبة المهنية الجشعة والمتغطرسة.

ثمة نفحة من النفاق في كل هذا، أو على الأقل عنصر قوي من عدم الصراحة. إذا سألت رؤساء البلديات ما يتمنونه في مراكز المدن، سيعطونك إجابات متشابهة - شوارع آمنة وأرصفة ومتاجر ومطاعم مزدحمة، وسكان بصحة جيدة وأعداد متزايدة، مع الكثير من المال في الجيوب.

التهجير الأميركي
في الواقع، يمضي رؤساء البلديات ومخططو المدن الكثير من وقتهم في المناورة لإنشاء هذه الأشياء كلها، ولكن مع رفض لا مفر منه: فهم لا يريدون أن يؤدي ذلك إلى التهجير القسريّ ـ الطبقيّ. وقد اختاروا عدم الاعتراف بأن التغيير الذي يسعون خلفه من جهة والتغيير الذي يدّعون الخوف منه من جهة أخرى، هما بالضبط الشيء نفسه.

وفيما تحوّلت كلمة "gentrification" إلى كلمة سيئة، ازداد حجم التعليقات الملتبسة حول الموضوع بشكل كبير، في مقابل تراجع في التقارير المتوازنة. وتمكّنت كاي هيموويتز، الكاتبة والمحررة في مجلة سيتي جورنال والأستاذة المحاضرة في معهد مانهاتن، من تخطي الضوضاء فنجحت في التعليق بعقلانية على الموضوع.

ففي كتابها "بروكلين الجديدة" THE NEW BROOKLYN: What It Takes to Bring a City Back، المؤلف من 199 صفحة؛ منشورات رومان وليتلفيلد؛ 27 دولارًا) تحليل مميز بهدوئه واتزانه حول الحي الذي يبدو أحيانًا وكأنه محور "gentrification" أي (التهجير القسريّ ـ الطبقيّ) الأميركي.

شكّلت عودة بروكلين إلى البحبوحة في القرن الحادي والعشرين محطةً مميزة، تتحدث عنها هيموويتز بلذة. وتكتب: "مدينة مهجورة تآكلها السخام الصناعي لأكثر من قرن من الزمن، تحولت إلى أروع مكان على الأرض وإلى نموذج للمدينة الحديثة المبدعة." لكن جوهر الكتاب هو الصورة التي ترسمها لحوالى ستة أحياء مختلفة، والإشارات التي تُستشف من كل منها عن عملية التهجير القسري-الطبقي.

يتشاركون المصالح
في معرض كتابتها عن منطقة بارك سلوب، حيث تعيش، تثير هيموويتز نقاطًا اجتماعية استفزازية تكاد تضيع في صخب النقاش. إحداها هي أن الطبقة أصبحت الآن أكثر أهمية من العرق: الأرستقراطيون البيض المنتمون إلى مدرسة النخبة وأصحاب الوظائف ذات الرواتب المجزية تربطهم علاقة طيّبة مع نظرائهم السود المثقفين. لكنّهم يلاقون فشلًا في التواصل مع جيرانهم البيض من الطبقة العاملة، علمًا أن معظمهم كان هناك قبل التهجير القسري- الطبقي، ولم يرتاحوا للوضع قط.

وبطريقة مماثلة، يُعتبر العمل والهواية أكثر قيمة من الجغرافيا. والعلاقات الأكثر أهمية في بارك سلوب هي تلك التي تربط السكان الذين يتشاركون مصالح مهنية وأنشطة في أوقات الفراغ، وليس أولئك الذين يسكنون بجوار بعضهم. وصارت أيام الألفة بين الجيران خلال أمسيات الصيف الطويلة مجرد ذكرى بعيدة. اليوم، يتوجّه مواطنو بارك سلوب نحو حدائق فنائهم الخلفي من دون أن يعرفوا حتى من هم جيرانهم.

بارك سلوب حي مبني من أحجار بنية أنيقة تمّ ترميمها لتستعيد مجد القرن التاسع عشر. أما حي وليامزبورغ المجاور فمختلف تمامًا: إنه حي قديم للطبقة العاملة، أصبح رمله الصناعي راقيًا بطريقة لم يعتقد أحد أنها ممكنة.&

في وليامزبورغ، يغتاظ الفنانون الذين وصلوا كرواد في الثمانينيات من التقنيين الذين ظهروا في أوائل عام 2000، وكلا الطرفين مستاء من تجار وول ستريت الذين انتقلوا إلى هناك من بعدهم. ووفقًا لهيموويتز، أعضاء الفئات الثلاث يحتقرون المباني الضخمة التي ظهرت على الواجهة البحرية لوليامزبورغ نتيجة لإعادة التقسيم الجاري في العقد الماضي، ما أنشأ "جدارًا ضخمًا بين المجتمع وحديقة الواجهة البحرية". هذه الأبراج هي الجانب المظلم من التهجير القسري- الطبقي، وتصوّرهم هيموويتز على هذا النحو بكل صراحة.

مكبّ للسود الفقراء
في الواقع، الطريق إلى نجاح أي مجموعة من الأحياء، هو التمييز الدقيق بين الأماكن التي يميل المراقبون العاديون إلى اعتبارها مماثلة.

هيموويتز تفعل ذلك بشكل فعّال في حالة بيدفورد-ستويفيسانت وبراونزفيل، وهما حيّان يتمّ النظر إليهما على نطاق واسع على أنّهما بؤرتان استيطانيتان لفقر الأميركيين الأفارقة والخلل الاجتماعي. ووصل حي بيدفورد-ستويفيسانت إلى أدنى المستويات في الستينيات والسبعينيات، ولكن في الآونة الأخيرة جعلته النعم المعمارية مركز جاذبية للقادمين الجدد من الطبقة المتوسطة، ومن بينهم الكثير من المهنيين السود.

أما براونزفيل، من ناحية أخرى، فهو مسكن يهودي فقير نشأ في أوائل القرن العشرين وأصبح قلعة معزولة من الإسكان العام، و"مكبًّا للسود الفقراء المعتمدين على المساعدات الحكومية والأفراد الأقل قدرة في بروكلين. لكنّ التهجير القسري الطبقي لم يمسّ هذا الحي - على الأقل ليس بعد.

وفي مناقشة وضع براونزفيل، تكشف هيموويتز عن استنتاجاتها النهائية حول موضوع كتابها. هي تتحدى الناشطين المحليين هناك الذين عبّروا عن معارضتهم لمجيء الطبقة الوسطى البيضاء: "هم يرتكبون خطأ. الحقيقة الصعبة –الفائقة الصعوبة - هي أن التهجير القسري الطبقي قد يكون أفضل ما حدث يومًا في في براونزفيل".

فائزون وخاسرون
بالفعل، إن النظرية التي تنبثق من الكتاب، والتي تحاول المؤلفة جعلها متوازنة، هي أن التهجير القسري الطبقي، على وجه العموم، كان شيئًا جيدًا لبروكلين. ولا يمكن أي مراقب منصف أن ينكر، وكذلك هيموويتز لا تحاول أن تنكر، أن أعدادًا كبيرة من الفقراء اضطروا إلى ترك بارك سلوب ووليامزبورغ، وأن هذا يحدث في بيدفورد-ستويفيسانت، وسيحدث في أكثر المناطق النائية في المنطقة الإدارية في السنوات المقبلة.

لكن، عندما نأخذ في الاعتبار بروكلين كما كانت منذ 40 عامًا - مجتمعات نابضة بالحياة أصبحت غير آمنة نهارًا وليلًا. ومنازل أنيقة من الحجر البني أصبحت في حالة سيئة خطيرة. ومناطق تجارية مع واجهات المحال التي هجرها التجار، الذين ما عادوا قادرين على كسب لقمة العيش منها. وفقدان الوظائف بشكل متزايد في كل ركن من أركان المنطقة - عندما يفكر المرء في تلك الأيام الكئيبة، ويقارنها مع بروكلين 2017، يرى أن المنطق النهائي من حجة هيموويتز مقنع: نتج من التهجير القسري الطبقي فائزون وخاسرون. والتراجع الحضري يجعل الجميع خاسرين.
&