الناس مهيأون للاعتقاد أن الأمور سيئة، ويبالغون في تقديم الكارثة على ما عداها، إذ لا يعتمدون على المعلومات المتوافرة، بل على سهولة استذكار الأمثلة... ومن الأسهل دائمًا تذكّر الأمور السيئة.

إيلاف: وفقًا لمؤرخ اقتصادي سويدي، شهدت الحياة البشرية تحسنًا بطرائق مختلفة، اليوم أو في القرن التاسع عشر.&فالبشرية جنس كئيب: 71 في المئة من البريطانيين يعتقدون أن العالم يزداد سوءًا، بينما يظنّ 5 في المئة منهم فقط أنه يتحسن.&

تطلع إلى المستقبل

وحين سُئِل الأميركيون إذا كان معدل الفقر تراجع عالميًا إلى النصف، أم تضاعف أم لم يتغيّر في آخر عشرين سنة، 5 في المئة منهم أعطوا الإجابة الصحيحة بأنه تراجع إلى النصف. هذا ليس جهلًا بسيطًا، بحسب يوهان نوربيرغ، وهو مؤرخ اقتصادي سويدي ومؤلف كتاب جديد عنوانه "التقدم: 10 أسباب لنتطلّع إلى المستقبل" Progress: Ten Reasons to Look Forward to the Future (مطبعة وانوورلد، 246 صفحة، 24.99 دولارًا). فحتى حيوان الشيمبانزي ربما ينجح مرات أكثر في اختيارالجواب الصحيح عشوائيًا (من بين ثلاثة احتمالات).

الناس مهيأون دائمًا للاعتقاد أن الأمور أسوأ مما هي عليه في الواقع، وهم يبالغون في تقدير أرجحية الكارثة. ذلك لأنهم لا يعتمدون على المعلومات، بل على سهولة استذكار الأمثلة، ومن الأسهل طبعًا تذكّر الأمور السيئة. والإعلام يضخم هذا التشويه. فتتصدّر المجاعات والزلازل وقطع الرؤوس العناوين الرئيسة؛ بينما لا يتمّ التركيز على خبر مثل "هبوط 40 مليون طائرة بأمان في السنة الماضية".

الفقر نقطة انطلاق
التشاؤم يخلّف تداعيات سياسية. فالناخبون الذين يعتبرون أن الأمور كانت أفضل في السابق سيطالبون حكوماتهم، على الأرجح، بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. 81 في المئة من مناصري دونالد ترامب يعتقدون أن الحياة ساءت خلال الخمسين سنة الماضية.&
و61 في المئة من البريطانيين الذين صوّتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن معظم الأولاد سيكونون في أوضاع أصعب من أوضاع أهلهم. أما الذين صوّتوا ضد "البركسيت" فيميلون إلى اعتقاد العكس.&

تجدر الإشارة إلى أن السيد نوربيرغ أطلق إعصارًا من الأدلة على أن الحياة تتحسن في الواقع. فهو يصف كيف أن جدّه الرابع نجا من المجاعة في السويد منذ 150 عامًا. وكانت السويد في تلك الأيام أفقر من بلاد جنوب الصحراء الأفريقية اليوم.&

وبرأي نوربيرغ، خطأ أن نسأل عن سبب فقر البعض. فالفقر نقطة الانطلاق في كل المجتمعات. والمدهش هو السرعة التي تراجع فيها الفقر. ففي عام 1820، كان 94 في المئة من البشرية يعيشون بأقل مما يعادل دولارين في يومنا هذا. وقد تراجعت هذه النسبة إلى 37 في المئة في عام 1990، والى أقل من 10 في المئة في عام 2015.

انتشار التكنولوجيا
إضافة إلى ازدياد معدل الثراء عند البشر، أصبحوا يتمتعون أيضًا بصحة أفضل حتى من أغنياء الماضي. وهذا يرجع في جزء منه إلى التطور المتسارع في العلوم الطبية. فعندما كادت أنفلونزا الطيور تتحول إلى كارثة في العام 2009، عمل العلماء على تحليل جينات الفيروس في يوم واحد وفي أقل من ستة أشهر بدأوا بإنتاج اللقاح.&

ربما يكون انتشار التكنولوجيا الأساسية التي تسهّل الوصول إلى الماء النظيف وتمديدات الصرف الصحي، قد أدّى دورًا أكثر أهمية بعد. فقصر لويس الرابع عشر كان قمة العظمة في القرن الثامن عشر. لكنّ غياب تمديدات الصرف الصحي، قد جعل رائحته نتنة.&
وقد كتب مراقب معاصر أن "الأروقة والمداخل وساحات الدار كانت تفوح منها رائحة البول والبراز. واليوم ارتفعت نسبة سكان العالم الذين يحظون بتمديدات صرف صحي حديثة إلى 68 في المئة بعدما كانت 24 في المئة في عام 1980، علمًا أنّها وسيلة ترف لم يتمتع بها ملك الشمس.&

يزداد الناس ذكاءً أيضًا، حيث سجل الأميركيون معدّل 100 نقطة في اختبارات الذكاء بعد الحرب العالمية الثانية. وبحلول عام 2002، من خلال استخدام الاختبار نفسه، ارتفع المعدّل إلى 118، علمًا أن التقدم الأكبر كان في الإجابة عن المسائل الأكثر تجردًا.

إن "تأثير فلين" هذا، كما هو معروف، لوحظ في جميع البلدان المتعصرنة. وعلى الأرجح فأهم الأسباب هي التغذية الأفضل وانتشار التعليم – فتغذية العقول وتحفيزها جيدًا يجعلانها تعمل بشكل أفضل – والتحسينات البيئية مثل إزالة الرصاص من البنزين.&

تأثير فلين معنوي
نوربيرغ يوافق الطبيب النفساني ستيفن بينكر الرأي بأن البشرية تعاني أيضًا "تأثير فلين معنوي". فبينما يصبح الناس أكثر مهارة في التفكير المجرد، فهم يجدون من الأسهل تصوّر أنفسهم مكان الآخرين. وهناك الكثير من الأدلة على أن المجتمع أصبح أكثر تسامحًا.

في عام 1964، حتى الاتحاد الأميركي للحريات المدنية وافق على ضرورة منع المثليين من تولّي الوظائف الحكومية. في عام 1987، لم يؤيّد إلا 48 في المئة من الأميركيين المواعدة المختلطة (بين إثنيات وعروق مختلفة).

في عام 2012، بلغت هذه النسبة 86 في المئة (و95 في المئة منهم تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا). ومع انتشار القيم الفردية في الهند، تراجع النظام الطبقي: انخفضت نسبة حفلات زفاف الطبقة العليا، حيث يجلس الجنسان منفصلين من 75 إلى 13 في المئة بين عامي 1990 و2008.

على الرغم من العناوين الدامية، فإن العالم أكثر أمانًا مما كان عليه سابقًا. فقد كان معدل جرائم القتل في المجتمعات البدائية حوالى 500 مرة أكثر مما هو عليه في أوروبا اليوم.&

على الصعيد العالمي، أصبحت الحروب أصغر حجمًا وأقل تواترًا مما كانت عليه قبل جيل واحد. والنوع الوحيد من العنف الذي صار أكثر شيوعًا هو الإرهاب، علمًا أن الناس يبالغون في تقدير مدى انتشاره.&

لفحة حس سليم
صار معدّل الأوروبيين المعرّضين للوفاة بسبب الوقوع على الدرج عشر مرات أكثر من معدّل الموت على يد إرهابي. والإثبات على أن الماضي كان أكثر وحشية من الحاضر يمكن استخلاصه ليس من البيانات فحسب، بل أيضًا من الأدلة الثقافية.

وفقًا لإحدى الدراسات، أصبحت أغاني الأطفال على سبيل المثال أكثر عنفًا بـ 11 مرة من البرامج التلفزيونية المعروضة قبل التاسعة مساء في بريطانيا. لكنّ تحسّن حياة معظم الناس لا يعني تحسّن حياة الجميع. فقد شهد عمال الياقات الزرقاء الذكور في الدول الغنية ركود أرباحهم. وحتى لو فشلت الإحصائيات في تحديد الفوائد التي يتمتّعون بها كمستهلكين للتكنولوجيا الجديدة، فالانزلاق في وضعهم حقيقي ومؤلم.&

يشكّل الاحتباس الحراري مصدر قلق أيضًا، غير أن السيد نوربيرغ يأمل بأن تنجح براعة الإنسان في تذليله. وهو يكتب بحماس عن جميع أنواع الابتكار الأخضر. فمثلًا، بفضل تكنولوجيا زراعية أكثر فاعلية، وصل العالم ربما إلى "ذروة الأراضي الزراعية".&
وبحسب تقدير مذكور، فبحلول نهاية القرن، ستتحول منطقة بضعف حجم فرنسا إلى طبيعة مجددًا. هذا الكتاب هو لفحة من الحس السليم. والسبب الرئيس الذي يجعل الأمور تتحسّن هو أن المعرفة تراكمية ويمكن مشاركتها بسهولة. وكما يقول نوربيرغ "فالمورد الأهم هو الدماغ البشري ... وهو بسرور قابل للتوالد".