تكتب الشاعرة بسمة شيخو أماكنها التي تخطرُ في الذكرى، وهي في هذه الكتابة تريد أن تحول الذكرى إلى عملية تزمين شعرية خاصة، وهذه العملية التزمينية لا تدرج في مواقيت اللحظة بل تُدرجُ في مواقيت الوعي وفي أبجدية الكتابة، وهنا تتحول من هلاميتها العابرة إلى فعل إبداعي ملموس، ولذا فإن تكرارها لهذه الأمكنة وغبطتها بتفاصيلها، هو نوع من الإيضاح المنتظم لحالة التماهي ما بين ذاتها الشاعرة وهذه الأماكن.&

وتشكل " دمشق" أيقونتها الدلالية الباذخة التي تعمل على استدعائها وكتابتها وتوثيق مكامنها الدلالية شعريًّا ، وبشكل مباشر تصبح عنوانا للديوان :" آخر سكان دمشق " ( مركز التفكير الحر، دمشق، الطبعة الأولى ، أكتوبر 2016) والرحيل هنا ليس قصدًا دلاليا، فآخر السكان لم يرحل بعد، ربما ارتحلت دمشق فيه، وربما هو آخر من وفد إلى دمشق ليسكن بها، والسكنى والرحيل هي دلالة بدهية ترتبط بالمكان. ودمشق اليوم هي غيرها. تقاسي من مأساة لم تتبدل منذ أكثر من ست سنوات. وهي مأساة غيرت أجيالا بأكملها، الأمر الذي غير بدوره قيما ورؤى وتصورات كثيرة في الواقع والحياة والثقافة بوجه عام.&
إذا اتجهنا إلى النص الذي يحمل الديوان عنوانه، نجد أن الشاعرة تقلنا مباشرة إلى سؤال: " ماذا أفعل هنا؟" وهو سؤال مكاني تحديدًا يربط بين الذات الساكنة وال " هنا" المكان. وهو سؤال يختزن درامية ما، أو حالة قلق، واغتراب، وتفكير في الرحيل. قصد السؤال الشعري هو قصد دلالي جلي يبرز هذا الضجر أو القلق، ويوشحه بخلفية مأساوية، تقول الشاعرة في مستهل نص:" آخر سكان دمشق" :&
ماذا أفعل هنا؟&
وحيدة في هذه المدينة
اقرعُ أجراسَ كنائسها أيام الآحاد
وأرفع الأذان عند كل مئذنة
أنادي على من ضَاعوا
وأصلِّي عن كلِّ من رحلوا،
أتجوَّل في الأسواق
البائعُ والمشتري
أنا؛
السَّاعة الثَّامنة سأغلق أسواقي،
بيدي مفاتيح الأبوابِ السَّبعة
أقفلُها
وأخلد للنَّوم
أوللموتِ
لا فرق عندي
فأنا آخر سكَّان دمشق!
يبدو أن المدينة خالية تماما، فالأنا، وهي ربما تكون أنا مكثفة متلبسة بالكل، هي التي تمارس حياتها وحدها بالمدينة رفعا للأذان، وقرعا لأجراس الكنائس وبيعا وشراءً. الرحيل عنوان أول للمشهد، والضياع عنوان ثان. المدينة التي حاصرتها الحرب لم يفن سكانها فناء حقيقيا بل مجازيا، فارتحلوا أو ضاعوا، والرحيل أو الضياع لا يعبران تماما عن المغادرة أو الفقد بالضرورة. وهي مدينة دالة ، حيث تتكرر نحو (29) مرة في الديوان معرفة بال التعريف (المدينة ) وتتكرر (14) مرة من دون أداة التعريف.&
وتكمل الشاعرة المشاهد بحالتين ضديتين: العرس والموت، ومن بين الضد يخرج اليقين الشعري ليعبر عن تمسك بالإقامة والسكنى بدمشق وعدم الخروج منها:&
سأمشط الحارات
بحثاً عن سُرَّة المدينة
ألمحُ يدكَ هناك
تمتدُّ نحوي،
سأرتدي لكَ الأبيض
وأهلّلُ لنفسي
عروسٌ تزفُّ نفْسَها لفارسٍ سبقها
في قلب دمشقَ يهرول
يبحث عنها داخلَ القبور
يحكي لكلِّ أبناء قبيلته
عن صبيةٍ
سكنتْ دمشق ولم تستطع أن تخرجَ منها .&
&
تشتغل بسمة شيخو على شعرية اللقطات المتجاورة نصّيًّا، وهذا الاشتغال يمنح نصها فضاءً متعددًا للتعبير الشعري، كما يمنحها طلاقة في تكوين مشاهد متجاورة مؤتلفة أم مختلفة دلاليا، بيد أنها تُدرج في التحليل الأخير ضمن البنية لكلية للنص، بتأويلاتها القارئة المختلفة. وعلى اليقين لم تسقط دمشق، ولكن ثمة حالة متخيلة تبرز هذا السقوط، وربما تعطي صورة المدن الأخرى التي أصابها قدر من الدمار، بقدر من الانعكاس المتخيل بإلقاء هذه الصورة على دمشق.&
&
استهلالات مفارقة:
تستهل بسمة شيخو بنص:" أعد الخراف وأنام" النص يرتكز على خمسة مشاهد أو خمس لقطات، تسري فيها صور حيوية، تأتلف من حزمة المدهش الواقعي، أو السوريالي الخاطف الواعي، أو من الرومانتيكي الكامن بالأنا. ففي مشهد سوريالي تعبر عن عودة الميت إلى مكانه الأول قبل أن يذهب لمثواه الأخير، تقول مثلا:&
في الجنازة
أقبِّل رأسَ الميت
فيرقصُ فَرحاً فوقَ الأكتاف
ويعودُ أدراجه
إلى حيث مرَّ ظلِّي يوماً
&
التضاد بين الكلمات، كتابة الوعي : الليل، الضوء، الحلم، الأبيض الأسود، الصوت، الصمت، الحكايات الخرافية، غودو الذي لا يأتي، الطبيعة، البحر، الصحراء، الأعشاب، الراعي، المهرج،&
ومن النصوص الأولى المشمولة بقدر من المفارقة نص: " المهرج" وفيه تبين الشاعرة علاقة المهرج بالناس، هم يبكون وهو يضحك، ثم العكس. المهرج إسقاط رمزي حيوي على درامية الواقع ومأساويته، وفي شخصية المهرج الكثير مما يقال عن احتمالات المفارقة وتأثيرها، وصياغة الأبعاد الرمزية المكثفة، والبحث عن الدلالات الموجعة، خاصة مع تاريخية استثمار هذه الشخصية في الشعر والمسرح على السواء، تقول الشاعرة:&
سرقتُ أنفَاً أحمر
ارتديتُــه
بدأَ النَّاس حولي بالبـكاء
فصرتُ أضحك
بشكلٍ هستيري
حتى انقلبتْ عيناي
وأصبحتُ مهرّجاً حقيقياً،
سأشتري
سِروالاً فضفاضاً
أريده مخطّطاً،
أخضر وأزرق
تتناوبَ الأرضُ مع السَّماء
مراتٍ عدة
عند ساقيّ،
قبعةً بنّيةً مزركشة
تشبه غِطاء التَّابوت،
أرفعُها
فتتسلَّل الجُثث من رأسي
وتلقي التَّحية! / ص 12&
تتحقق درامية المفارقة في المشهد الأخير من المقطع حيث تتسلل الجثث وتلقي التحية. كأن كل مشهد جثة، أو كل حالة ضحك مأساوي هو جثة الشيء. المهرج ينقل هذه الحالة بوجع، لكنه يوجع أكثر حين يشير إلى انتقال حالته التهريجية – المأساوية إلى الواقع، إلى الآخرين فيصبحون هم بدورهم:" مهرجين ":&
مهرجون بالفطرة
أنوفهم أيضاً حمراء
دموعهم السَّوداء لا تجف
سيضحكونَكم أكثر مني
ويبكون معكم / ص.ص 12-13&
وما بين الضحك والبكاء تتولد المفارقة الضدية، التي تجعل الجثث تلقي التحية، والضاحكون والبكاؤون وربما لموتى مهرجين حاضرين بالفطرة، في مأساوية خفية تعلق بالكلمات وتبرز في أثرها السياقي المفارق الجلي.&
وهو الأمر الذي انعكس على تشكيل صور متعددة لدى الشاعرة لا تنأى عنها جرثومة المفارقة، أو الألم الشفيف، أو الحيرة، والفقد، والخسران، كما نرى تمثيلا في هذه المشاهد المكثفة المبثوثة في نصوص عدة:" دستُ عين الرصيف بغير قصد، كان يسترق النظر إلى ساقيّ، أكملتُ الطريق أعتذر وهو يبكي بصوت عال/ ص 14 ) &( صورتي لا تظهر في المرآة!&
الجميع يراني إلاي ) ص 128 ( لا حاجة لنا للأبواب
نمدها موائد طويلة للمسافرين العائدين) ص 127&
&
( بائع الدخان ابتسم، وأشعل نظرته، ترك دخانها يخنق زبائنه ) / ص 15 ( قذيفة جائعة تلتهم كلماتين فأكمل طريقي خرساء، أجلس عند أبواب الجوامع، عند الملاهي والبارات، لا بشر في هذه المدينة، فزاعات فقطن أيتام يموتون عند قدمي، وشعراء بله يتغنون بياسمين دمشق ) / ص 17&
&
جرثومة الفن:&
لأن جرثومة الفن تسري في أوردة مخيلة الشاعرة، وهي فنانة تشكيلية ودارسة للفن، فإن ترسيم دمشق يتأدى لا باستدعاء صور محددة، أو تعبيرات وجدانية، ولكن يتم كلوحات شعرية مكثفة، نستطيع أن نرى أثر المخيلة التشكيلية في صياغتها، ويتسنى لنا هنا الإشارة لعدة مشاهد/ لوحات رسمتها الشاعرة ، خاصة في نصوص: مات الليلة، ينبح عاليا، الغجرية لم تغادر، حلمت، ثقب في قلبي، داخل البالون، - تمثيلا – بالإضافة إلى تقديم هذه المشاهد بشكل حيوي يصبو إلى التأثير في حواس القارئ وجذبه إلى بعض الآفاق الصادمة.&
ثمة بنى متعددة مورقة بشكلانيتها تتبعها بسمة شيخة، تتمثل في تجاور المشاهد وتتابعها حتى في نطاق النص الواحد، وقد تبدو هذه المشاهدة متباعدة من وجهة دلالية عن بعضها البعض، لكنها مترابطة في جوهر الرؤية. فالنص لا يعبر – ربما – عن دالة أو موضوع أو مضمون مباشر جلي، يمكن القبض عليه لأول التفاتة قارئة للنص، ولكنه يعبر عن جوهر معنى، وعمق رؤية، بمعنى أن الشاعرة تعدد أسباب مشاهدها للوصول إلى جوهر كينونة، حين تعبر بشكل كلي مثلا عن الموت والرحيل والغياب، تقدم جملة مشاهد تدرج في هذا الأفق، أو حين تعبر عن السفر، - مثلا – تخطط جملة من المشاهد كأنها ترسم لوحات شعرية مكثفة لتخطر في التحليل الأخير في كينونة السفر وجوهره وما ينطوي عليه من دلالات الاغتراب والحنين والتشوق.&
وتستثمر الشاعرة جملة من الآليات ما بين الاستلهام، حيث تستلهم رؤى مشاهد أفلام الستنيات السينمائية &التي كانت مضمخة ببعد رومانسي حينا وببعد واقعي أحيانا أخرى، في نص :" عاشقة من الستينات"واستثمار السيناريو في السرد الشعري نص بعنوان: " كرسي واحد" ص 119 ، والصور المفارقة في معظم نصوص الديوان، التي تجللها صور الموت والحياة، والضحك والبكاء، والمآسي المروعة المكنوزة في دلالات الكلمات، التي تنتقل حتى للمدينة:&
&
ماتَ اللَّيلة
رائحةٌ كريهةٌ فاحتْ!
الجميع حولي عَرف
بأن جثةً جديدة تسكنني،
دمشقُ
كانتْ الأولى
لكن رائحتَها حتّى بالموت
عَطِرة،
ربما لأنَّها شهيدة،
وربما لأنَّها وحيدة ،
وربما..../ ص 25
&
كما تستثمر آليات السرد الشعري في نصوص عدة تحمل بعدًا حكائيا، كما في " أنا بخير" وتستخدم أسلوب الرسائل، والتركيز على الوصف، فيما أن :" الأنا" الشاعرة تشكل عنصرًا جليًّا مهيمنا على أغلب النصوص، باستخدام مختلف الصيغ النحوية التي تدل على الأنا، من ضمير الأنا نفسه، إلى الفعل المضارع:" أفعل" إلى ياء الملكية، وغيرها من الصيغ التي تبدي حضور الأنا بكثافة في مختلف نصوص الديوان، التي تقطر منها حالات من الوجع، والمفارقات المؤلمة، والمشاهد التي تذهب إلى نصاعة الروح حيث تستعيد الروح مداها المخيل ربما تعلو على الأحزان التي تطوق دائما بمشاهد الفقد والخسران والألم، كما في هذا المشهد:&
شفتاي لا تعرفان إلا الابتسام،
يموتون في الشَّارع المقابل فأبتسم،
يجوعون في المدينة المجاورة فأبتسم،
يُدفنون في قبري... فأبتسم
أنا التي ستموت
بلا قبرٍ،
بلا دموعٍ،
بلا بسمة. / ص 18&
&