حتى عدم -حضورك يحافظ على حرارتك. وهو أكثر واقعيّة من غياب. الحسرة غالبا ما تضيع في الغامض والمُلْتبَس (راينار ماريا ريلكه)
&
نهاية أسبوع من شهر أفريل-نيسان من سنة بعيدة، قد تكون سنة 1992، إسودت الدنيا في ميونيخ، وبرد الطقس، وتهاطلت الأمطار بغزارة، ومن دون إنقطاع. قررنا، زوجتي سوزانا وأنا، عدم الخروج، ولازمنا شقتنا الصغيرة في "نوردآندشتراسه". وكل واحد منّا إنصرف للقراءة. هي كانت تقرأ "مائة سنة من العزلة" لغابريال غارسيا ماركيز. وأنا كنت غارقا في قراءة "الجبل السحري" لتوماس مان التي تدور أحداثها في مصحة لمرض السل في جبال دافوس بسويسرا. من خلالها نحن نقرأ أجزاء كبيرة من تاريخ اوروبا الفكري والثقافي والسياسي. وكنت مشدودا إلى الفصل الذي يصف فيه توماس مان ضياع هانس كاستروب، بطل الرواية، في الثلوج فلا يهتدي إلى طريق العودة إلى المصحة، عندما رن الهاتف ليقطع صمت الظهيرة التي بدت فيها ميونيخ وكأنها مدينة مهجورة. رفعت السماعة فجاءني صوت عذب ليعلمني أن صاحبته هي الممثلة رجاء بن عمار. بعدها قالت لي إنها وزوجها منصف الصايم في ميونيخ لبضعة أيام. وبكل لطف طلبت مني إن كان بإمكاني أن ألتقي بهما، فرحبت بذلك وأنا أرجف من الفرح. فبرغم أنني لم أكن على علاقة وطيدة بهما، بل أقدر أن لقاءاتنا السابقة كانت عابرة وقصيرة، إلاّ أني كنت أرغب في أن أستعيد معهما شيئا من أجوائنا التونسية الحميمة فلعل ذلك ينسيني وحشة الغربة في ميونيخ في تلك الأيام الباردة والممطرة. زوجتي فرحت بذلك هي أيضا إذ أن القراءة وحدها لم تكن كافية للتخفيف من وطأة الضجر الثقيل. لذا سارعنا بتحديد موعد في اليوم ذاته. في الساعة الخامسة مساء، إلتقينا في مقهى ب"تركونشتراسه" بحيّ "شوابينغ" لنشرب كؤوسا أنستنا المطر والبرد، ومزقت أوصال الضجر فانقشع في الحين تاركا إشراقة في قلوبنا . وبسرعة، ومن دون تكلف، ملأت رجاء جلستنا بأناقتها وجمالها الأندلسي المرعب، وبعذوبة صوتها فما عاد أحد منا قادرا على "قهر" حضورها المبهر. ومن حين لآخر كان بعض الألمان يحدقون فيها بدهشة وذهول كما لو أنهم يحدقون في اجمل لوحة في تاريخ الفن. وبيسر وتلقائية كانت رجاء تتحدث عن الحياة وعن الفن وعن المسرح وعن الروايات العالمية التي تحبها. وكان سوزانا تشرب كلماتها وأفكارها كما لو أنها تشرب ألذّ شراب لم تعرف له مثيلا من قبل أبدا. وكان من الطبيعي أن تستمر السهرة إلى ساعة متأخرة من الليل. وفي كل لحظة، كانت رجاء تزداد تألقا وإشراقا. مرة تكون شهرزاد الشرقية التي إنتزعت شوكة الشر والعنف من قلب شهرايار. ومرة تكون لو أندرياس سالومي التي فتنت مشاهير الرجال في عصرها من أمثال نيتشه، وراينار ماريا ريلكه، ولم تقبل الزواج من المستشرق فريدريك كارل اندرياس الذي هدد بالإنتحار إلا بعد أن اشترطت عليه عدم لمسها. وفي لحظة أخرى هي كارمن الأندلسية التي تقاتل العشاق للفوز بقلبها. وفي تلك السهرة حدثتنا عن خالها رضا القلعي ، عازف المكنجة الشهير الذي قتله مبكرا حبه الجنوني للفن حتى أنه كان يجترح من قلبه المريض كل قطعة يعزفها...
في اليوم التالي، تحدّينا المطر والبرد وقمنا بجولة طويلة في ميونيخ. وفي المساء، دعتنا الراحلة العزيزة اردموته هيللر لتناول العشاء في شقتها البديعة ب"فرانز- جوزيفشتراسه". وقد دعت إلى العشاء أيضا أصدقاء ألمانا من أهل الفن والصحافة والأدب. ومرة أخرى وجد جميع المدعوين انفسهم مشدودين بخيوط سحرية إلى رجاء التي ملأت كعادتها المكان فلكأنها الوحيدة التي تشغره. أما من تبقى فمجرد ديكور لسهرة رائقة كانت هي تديرها بمهارة فائقة، وبذائقة عالية، وبثقافة واسعة أبهرت كل الحاضرين. وفي لحظة ما سمعت صديقا ألمانيا مشهورا في حلقتنا بمعارفه الواسعة والعميقة في مجالات متعددة، يهمس لي:”ما كنت أدري أن هناك نساء عربيات بمثل هذه الثقافة وهذا الذوق الرفيع، وهذه الجلالة، وهذه الثقة بالنفس، وهذا التحدي الذي يجبر أعتى الرجال وأشرسهم على الركوع تقديرا واعجابا!”.
بعد أربعة أيام، غادرت رجاء وزوجها منصف ميونيخ فشعرت بفراغ رهيب جعلني أطوف حزينا في المدينة مثل فتى يتيم. وعندما علمت مساء ذلك اليوم برحيلها وأنا غارق في قراءة رواية" القلب صياد وحيد" للأمريكية كارسون ماك كلارس، شعرت بنفس الحزن المر الذي استبد بي في أوقات سابقة فيها فقدتّ صديقات وأصدقاء أعزاء على القلب والروح فانطفأت إشراقة الربيع، ومن بعيد رأيت بحر الحمامات ينشج حزينا لغياب فنانة رائعة لم نفقدها نحن فقط أهل الفن والثقافة، بل فقدتها تونس كلها في هذا الزمن الأغبر الذي لم نعرف فيه غير المزيد من الخيبات والإنكسارات ولوعة فراق من أحببناهم وأحبونا …
وداعا رجاء بن عمار!
وداعا أيتها السيدة الجليلة!
&