&
من الأحداث البارزة، والمثيرة للإهتمام في حياة شارل بودلير(1821-1867) الذي تحتفل فرنسا هذا العام بمرور 150 عاما على وفاته، مثوله أمام المحكمة بسبب مجموعته الشهيرة:"أزهار الشر" التي تعتبر مؤسسة للحداثة الشعرية لا في بلاده وحدها، وإنما في جميع أنحاء العالم إذ بلغ صداها خصوصا خلال القرن العشرين حتى البلدان الأكثر جهلا بالثقافة الغربية.
وقد صدرت الطبعة الأولى من هذه المجموعة يوم 27 يونيو-حزيران 1837. بعد صدورها بأيّام قليلة، نشرالناقد غوستاف بوردان في جريدة"لوفيغارو" مقالا ضمّنه هجوما عنيفا على القصائد التي احتوتها، واصفا إيّاها ب"الخليعة"، وب"المسيئة للأخلاق العامة". وقد كتب بوردان يقول:”إنّ المقزّز في هذا العمل، يتعايش جنبا إلى جنب مع القبيح .أبدا لم يحضر كلّ هذا العدد الهائل من الشياطين والأبالسة والأجنّة والبرقات والقطط والهوام!إن هذا الكتاب مستشفى لكلّ إختلالات العقل ولكلّ تعفّنات القلب".
أغاظهذا المقال شارل بودلير كثيرا، لذا لفترةطويلة معتبرا إياه السبب الأساسي للمتاعب القضلائية التي تعرض لها. وبعد صدور المقال المذكور بيومين فقط، رُفعت قضية ديوان بودلير إلى المحاكم. وقد اهتمّ القضاة بثلاث عشرة قصيدة من بين القصائد الستين التي احتوتها مجموعة"أزهار الشر"، بينها أربع كان غوستاف
بوردان قد شنّع بها. وفي التاسع من يوليو-تموز من الشهرالمذكور، بعث بودلير برسالة إلى والدته محاولا طمأنتها قائلا:” لقد أشاعوا خبرا يفول إنه ستتمّ متابعتي قضائيّا. إلاّأن شيئا من ذلك لن يحدث إذ أن حكومة مشغولة بانتخابات باريس الرهيبة حدّالإختناق ليس لديها الوقت لكي تلاحق مجنونا". وفي الحادي عشر من الشهرذاته، كتب بودلير إلى لا ناشره يقول:”إخف بسرعة ، إخف جيّدا كلّ النسخ التي تمّ طبعها. هذه هي النتيجة الطبيعية لنشر الكتاب بطريقة ليست جدية. كان بالإمكان أن تكون لنا مواساة لو أنك قمت بما كان يتوجبالقيام به، وبعت الطبعة في ثلاثة أسابيع فقط. عندئذ لن يكون لنا سوى شرف المحاكمة التي من الممكن أن نتخلص منها بسهولة". في العشرين من شهر آب-أغسطس من العام المذكور، أصدرت محكمة"اليسن" بباريس حكما يقضي بتغريم بودلير ثلاثمائة فرنك والناشرمائة فرنك فقط. وأما عدد القصائد التي أشار إليها نصّ الحكم باعتبارها "مخلة بالأخلاق"ن فقد بلغ عددها ستة.
بعد صدور الحكم، سأل أحدهم بودلير:”هل كنت تنتظر من المحكمة أن تبرئك؟"، فرد هوقائلا:” أن تبرئني؟ بالعكس ، كنت أنتظر أن تعيد الإعتبار لشرفي!”. وفي نفس الشهر الذي صدر فيه الحكم، تلقى بودلير رسالة من فيكتور هوغو، وفيها كتب يقول:”اتصلت سيدي برسالتك، وبكتابك الجميل. الفن مثل السعادة حقل بلا نهاية. وها أنت تثبت ذلك وتؤكده أحسن تأكيد.”أزهار شرّك" تلمع وتضيء مثل النجوم". وفي مذكراتهما الشهيرة، يروي الأخوان غونكور أنهما شاهدا بودلير في أحد المطاعم، وكان يحاول جاهدا أن يدافع عن نفسه ضدّ تهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة التي وجهت له. لكن عوض أن يستأنف الحكم، بعث بودلير برسالة إلى الإمبراطورة يطلب منها التدخل لصالحه. وهذا ما تمّ بالفعل. إثر ذلك قررة وزارة العدل تخفيض قيمة الغرامة من 300 فرنك إلى 50 فرنك فقط.
مطلع عام 1860، صدرت طبعة رابعة من "أزهار الشر"، إلاّ أنها لم تتضمّن القصائد الواقعة تحت طائلة القانون. وعندما فرّ الناشر إلى بلجيكا، التحق به بودلير هناك، ليعيدا معا طبع المجموعة بجميع القصائد التي تضمنتها في طبعتها الأولى.وقد لوحقت هذه الطبعة قضائيا من جديد، وصدر الحكم بشأنها في مدينة "ليل" الفرنسية يوم السادس منمايو-أيار 1868،أي عقب مرور عام واحد على وفاة بودلير. وفي عام 1871 احترقت جميع أوراق ملفّ القضية فيالحريق الهائل الذي اندلع في قصر العدالة بباريس. وفي عام 1924، عثر على نسخة كاملة من "أزهار الشر" كانتىتباع فيالمزاد العلني. عندئذ قامت جمعية"أنصار بودلير" بحملة واسعة مطالبة القضاء الفرنسي بضرورة مراجعة المحاكمة. إلاّ أن هذه الحملة التي ساهم فيها عددكبير من المثقفين والمبدعين والفنانين لم تفضي إلى أيّة نتيجة. وفي 15سبتمبر -أيلول من العام المذكور، فتحت "المجلة الأدبية " الفرنسية ملف القضية من جديد، مطالبة القضاء الفرنسي برفع الحجز نهائيا عن القصائد الممنوعة. وفي 31مايو-أيار 1949، عقب مداولات استمرت 12يوما، استجابت المحكمة لطلب المجلة المذكورة. وقد جاء في نص الحكم ما يلي:”إن القصائد التي مُنعت من قبل لا تتضمن عبارة فاحشة أوخشنة. وهي لا لاتتجاوز في شكلها التعبيري الحريات المسموح بها للفنان. إن الصور التي خدشت مشاعر بعض الناس عند صدورها في المرة الأولى، بسبب فرادتها، وبدت لبعض القضاة كما لو أنها تسيء للأخلاق العامة، يجب ألاّ تُفسّرَ تفسيرا واقعيّا، بل يجب أن تؤخذ جوانبها الرمزية بعين الإعتبار".