إيلاف: ترتبط الخلايا العصبية البشرية بصلة قربى بعيدة مع خلايا الخميرة التي تنحدر هي نفسها من ميكروبات أبسط تكوينًا. لكنها، على الرغم من ذلك، خلايا منظَّمة في تكوينات قادرة على إنجاز مآثر مدهشة في الخلق.

كيف وصل العالم من البكتيريا إلى باخ، ومن الفطريات إلى الفوغا الموسيقي؟... هذا ما يتناوله الفيلسوف الأميركي والعالم المعرفي دانيل دينيت في كتابه الجديد "من البكتيريا إلى باخ وبالعكس: تطور العقول" From Bacteria to Bach and Back:Evolution of the Minds (مكون من 496 صفحة، منشورات نورتون، 29 دولارًا)، متوسعًا في نصف قرن من البحث في هذا الموضوع.

اصطفاء طبيعي
تعود الحكاية في بداياتها إلى الاصطفاء الطبيعي في نظرية داروين، عن كائنات عضوية معقدة تنشأ تدرجًا بالحفاظ على الطفرات المفيدة واجتثاث الطفرات الضارة.

ما العلاقة بين باخ والبكتيريا؟

تتطلب العملية من القارئ أن يمارس شيئًا من التعليل الغريب بالمقلوب، أي أن يُجري تغييرات جريئة في نظرته إلى طبيعة الهندسة التكوينية والغرض والوعي للتخفيف من قوة "الجاذبية الديكارتية" أو ميل الإنسان إلى التفكير في العقل بوصفه لغزًا وشيئًا غير مادي. 

من الشعارات الأساسية التي يرفعها دينيت شعار "الكفاءة بلا فهم". فمثلما أن الكومبيوترات يمكن أن تؤدي حسابات معقدة من دون أن تفهم الحساب كذلك المخلوقات تستطيع أن تمارس سلوكًا محدَّدًا بدقة عالية، من دون أن تفهم لماذا تفعل ذلك.

مبرّر سلوكها، أكان للإفلات من مفترس أم إغواء الجنس الآخر بهدف التزاوج، مبرّر "عائم بحرية"، على حد تعبير دينيت، يوجد ضمنًا في هندسة تصميم المخلوقات، لكنه ليس مُمثَّلا في أدمغتها. يقول دينيت: "نشأت الكفاءة من دون فهم من عدم وجود بديل آخر في الطبيعة، وهذا يحدث حتى للحيوانات العليا".

لا مَلَكة خاصة للفهم
كيف نشأ إذًا عقل الإنسان؟، فالبشر لا يولدون بمَلَكة خاصة للفهم والإدراك بل تطور عقل الإنسان بعملية ارتقاء ثقافي تعمل وفق ميمات أي عناصر منظومة سلوكية متوارثة، فالميمات سلوك يمكن نسخه، والكلمات مثال جيد على الميمات.

في البداية، انتشرت الميمات بين الجماعات السكانية، كما تنتشر الفيروسات بعد اصطفائها بسبب انتقال عدواها. لكن بعضها كان ميمات مفيدة وتكيَّف العقل البشري لاحتضانها وتنميتها: التطور الوراثي والتطور الميمي يعملان معًا. فأعطت الكلمات وغيرها من الميمات الإنسان إمكانات جديدة قوية، للتواصل والتمثيل الواضح والتأمل ومساءلة الذات ومراقبتها.

وباستخدام لغة الكومبيوتر فإن تطور الميمات وفر "أدوات تفكير"، مثل تطبيقات الهاتف الذكي إلى حد ما، حوَّلت البشر إلى مصممين عاقلين، وبذلك إحداث ثورة حضارية وتكنولوجية.

ينظر دينيت إلى وعي الإنسان أيضًا على أنه نتاج عوامل وراثية وميمات. فالحاجة إلى التواصل أو حجب الأفكار تؤدي إلى إيجاد "ملخص محرَّر" للعمليات المعرفية، على غرار تفاعل المستخدم مع الكومبيوتر. وتكون المواد الذهنية التي تسكن الوعي أقرب إلى الروايات منها إلى التمثيلات الدقيقة للواقع الداخلي. 

قدرات متزايدة
يتوقع دينيت أن تستمر الكومبيوترات في التطور وامتلاك قدرات متزايدة، لكنه يشكك في أن تكتسب فهمًا حقيقيًا في وقت قريب، لأنها تفتقر إلى الاستقلال الذاتي والممارسات الاجتماعية التي عملت على تنمية الفهم والوعي والإدراك عند البشر. وهو يشعر بالقلق من مغالاة البشر في تقدير ذكاء اختراعاتهم والاعتماد عليها اعتمادًا مفرطًا، ومن تقويض المؤسسات والممارسات التي يعتمد عليها فهم الإنسان نتيجة ذلك. 

يشير استعراض هذه الجوانب إلى ثراء الكتاب، حيث يقدم دينيت شروحًا منيرة للأفكار التي يسوقها ويشفعها بأعمال تجريبية شيقة.

وفي حين أن الكثير من طروحاته مثيرة للجدل، وتقنع بعض القراء أكثر مما تقنع البعض الآخر، فلدى دينيت سجلممتاز في التنبؤ بالتطورات التي ستحدث في علم المعرفة، وسيكون من العجالة الرهان على خروجه عن هذا المسار. وسواء أقتنع القراء أم لم يقتنعوا، فإنهم سيجدون عقولهم تغتنتي بأدوات تفكير قوية متعددة. 

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونوميست". الأصل منشور على الرابط:
http://www.economist.com/news/books-and-arts/21718460-consciousness-explained-how-humans-became-intelligent