إيلاف: يعيد الباحث والمفكر الأردني غسان إسماعيل عبد الخالق طباعة كتابه "الدولة والمذهب.. جدل السلطة والسلطة الموازية في الفكر الإسلامي" (الصادر في طبعته الأولى عام 2000) يعيد طباعته هذا الأسبوع عن "الآن ناشرون وموزعون". 

ويؤكد عبدالخالق في كتابه أن ما تلا فاجعة الاحتلال الأميركي للعراق من صـراعات مذهبية دموية، بدءًا من عام 2006، رشّح ثنائية (الدولة والمذهب) للحضور بقوة في الواقع العربي، الذي راح يتصادى قُطْريًا مع هذه الثنائية بصور عديدة، أكّدت أيضًا حقيقة أن مأساة (السلطة والسلطة الموازية) أو (الدولة والدولة الموازية)، ما زالت مرشّحة للحضور بقوة في المجتمعات العربية. 

تجليات الربيع العربي
من خلال خمسة مباحث، يرصد عبد الخالق ويحلل الجدل بين السلطة والسلطة الموازية في الفكر الإسلامي قديمًا وحديثًا بادئًا بمبحث "الأمويون ومالك بن أنس في الأندلس (محنة المَسَـرِّيّة)"، ثم مبحث "التصوّف في العصر العبّاسي (محنة الذّات)"، فمبحث "ابن خلدون وعلم الكلام (محاولة للخروج من المحنة)"، ومبحث "السّلفيون والمركزيّة الغربيّة (محنة الأفغاني)" خاتمًا بمبحث "العبّاسـيون والمعتزلة، (محنة السُّنّة؛ قراءة في فكر فهمي جدعان)".

ثنائية الدولة - المذهب حاضرة بقوة في الواقع العربي

في مقدمته الجديدة للكتاب رأى عبد الخالق أن الربيع العربي - بدءًا من عام 2010- جاء ليزيد هذه الثنائية تصاعدًا في العديد من الأقطار العربية التي طالها هذا الإعصار، فإذا بالمذهب السنّي الأشعري ممثلًا في الإخوان المسلمين ومن لفّ لفّهم ينطلق بسـرعة مذهلة، بدءًا من المغرب مرورًا بتونس وليبيا ومصر واليمن والأردن وسوريا، بالعًا في طريقه - بتفاوت ملحوظ - الدولة والمجتمع والتاريخ في آن واحد. 

يضيف عبد الخالق قائلًا: "ثم إذا بهذا المذهب يتقهقر تقهقرًا جليًّا خلال عام واحد فقط، في ضوء تحالف غير مسبوق بين ما تبقّى من مكوّنات الدولة الحديثة في معظم هذه الأقطار من جهة، وقوى المجتمع الديمقراطية، فيما راح المذهب الشيعي يتمدّد في العراق وسوريا واليمن، بدعم مادي ومعنوي غير مسبوق من إيران، كما راح المذهب السُّنّي السَّلَفي المُتشدِّد ممثّلًا في فلول تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية الصاعد (داعش) يحاول ملء الفراغ السياسي في العراق وسوريا، ولا يدّخر وسعًا لزعزعة الأمن والاستقرار في العديد من أقطار الوطن العربي". 

انعكاس الماضي
يتابع "إن ثنائية الدولة والذهب - أو ثنائية السُّلْطة والسُّلْطة الموازية - كما حاول هذا الكتاب أن يسلّط الضوء عليها منذ عام 2000، من خلال استحضار نموذجين تاريخيين تجسّدا في محنة تيار السنّة أو أهل الحديث على يد المأمون والمعتزلة من جهة، وفي محنة تيار المعتزلة أو المَسَـرِّيّة على يد عبد الرحمن الناصر وفقهاء المالكية من جهة ثانية، قد لا تكون حاضـرة حرفيًا وبحذافيرها الدقيقة، لكنها تمثّل مختبرًا تاريخيًا وفكريًا استثنائيًا لآليات الفعل ورد الفعل السـياسـي والأيديولوجي من جانب الدولة العربية من جهة، ومن جانب الدولة الموازية من جهة ثانية، من شأنه أن يمدّنا بالعديد من التجارب والخبرات والمعارف النوعية". 

المبحث الخاص عن التصوّف في العصـر العبّاسي، من خلال استقراء وتأويل تجربة وعبارات أبي يزيد البسطامي الصوفية، رفد به عبد الخالق الطبعة الجديدة. وقال: "مع أنني أعترف سلفًا بأن إيقاع الصراع قد خفت في هذا المبحث خفوتًا شديدًا - مقارنة بسائر مباحث الكتاب - إلا أن حرصي على استيفاء المشهد المذهبي في العالم العربي الإسلامي، قد أملى عليّ ضرورة ملء هذا الفراغ؛ فليس من العدل أن تشتمل الطبعة الأولى على مقاربات - بنسب متفاوتة - للسُّنَّة والشِّيعة من جهة، ولمذاهب الأوزاعية والخوارج والمالكية والحنابلة من جهة ثانية، ولمذاهب المعتزلة والأِشاعرة والظاهرية من جهة ثالثة، ثم لا تشتمل الطبعة الجديدة على مقاربة للتيار الصوفي الذي مثَّل – ولا يزال يمثِّل - طيفًا إشكاليًا رئيسًا في الواقع العربي. 

كما رفد عبدالخالق المبحث الخاص بمحنة المعتزلة وبفكر الدكتور فهمي جدعان باستدراك ضروري في ضوء كتاب (تحرير الإسلام) الذي يجسّـر الفجوة التاريخية القائمة بين القرن الثالث الهجري والقرن الواحد والعشرين.

وأوضح: "في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، أحجمت عن تضمين هذا الفصل (الهادئ) عن التصوّف، حرصًا مني على تدفّق الإيقاع المحتدم لجدل السُّلطة والسُّلطة الموازية في الفكر الإسلامي، كما تجلّى في المباحث الأربعة التي أفردتها للأمويين والمذهب المالكي في الأندلس، ولابن خلدون ومحاولاته للخروج من محنة علم الكلام، وللأفغاني ومحاولاته لبلورة خطاب سلفي معاصر يمكن أن يضطلع بمواجهة خطاب المركزية الغربية، ولفهمي جدعان ومحاولته لإعادة النظر في محنة خلق القرآن وتبرئة المعتزلة من دم السُّنّة".

التجربة الصوفية
يضيف: "لكن هاجس الاستغراق المعرفي واستكمال المشهد المذهبي، أمليا عليّ ضرورة استحضار التجربة الصوفيّة وإفرادها بمبحث خاص بها، رغم الخفوت الذي يمكن أن يطال الإيقاع العام للكتاب. فالتجربة الصوفيّة في القرنين الثاني والثالث الهجري، اتسمت بجوّانيّتها البالغة، التي حالت دون بروز نقاط تقاطع صاخبة بينها وبين السُّلطة السّياسيّة العباسيّة في المشرق أو السُّلطة السّياسيّة الأمويّة في الأندلس، لأنها حافظت على تفاعلها الداخلي، الذي مثلت المجاهدات الذاتية والمواجد الشخصية والسلوكات الفردية ميسمها العام، فظلت هذه التجربة شكلًا من أشكال الشوق الرّوحي الخالص للسّماوي المتعالي عن أدران الاشتباك الأفقي الدنيوي الفاني، واقعًا أو إنسانًا". 

باستثناء النموذج المتطرّف المتمثِّل في الحسين بن منصور الحلاّج (ت309هـ) الذي استثار غيظ السُّلطة السّياسيّة بشطحاته التي نقلته من حيّز المعاناة الذاتية إلى حيّز استفزاز المنظومة العقائدية الراسخة للجماعة – فغدا هدفًا اجتماعيًا سياسيًا للرأي العام - فقد ظلّت الصوفيّة - برأي عبدالخالق - ضربًا من ضروب الهامش الروحي الذي يتفيّأ ظلال المذاهب كلّها من دون ضجيج أو صخب، حتى عبّرت عن نفسها – بفعل تصاعد مفهوم (الفتوّة) اجتماعيًا وسياسيًا - من خلال صلاح الدين الأيوبي (ت589هـ) الذي وظّف الطرق الصوفيّة على نطاق واسع لإذكاء حركة المقاومة الشعبيّة ضد الفرنجة من جهة، ولاستئصال منابع الإرث الفاطمي الشِّيعي في بلاد الشام ومصر والمغرب العربي من جهة ثانية. علمًا بأن صلاح الدين كان حنبليًا أشعريًا بوجه عام، وعلى وجه التحديد فقد كان صوفيًا من أتباع الطريقة القادرية، وشيخها عبد القادر الجيلاني (ت561هـ).

عصر الانحطاط
في المبحث الثالث بابن خلدون، قال عبدالخالق "إذا كان ابن خلدون قد استطاع أن يستوعب محصلة التفاعل السياسي الفكري الاجتماعي على امتداد سبعة قرون، والمعبَّر عنه أيديولوجيًا وفلسفيًا، بدءًا بعقلانية المعتزلة، مرورًا بتوفيقية الأشاعرة، ثم العقلانية الميتافيزيقية بمظهريها السينوي والرشدي، وانتهاء بوقف الجدل وانتهاء الأمر لمصلحة الموقف السلفي بوجه عام... إذا كان ابن خلدون قد استطاع أن يستوعب ذلك حقًا، فإن بوسعنا إذن، القول إنه - منظورًا إليه على أنه حلقة الوصل بين لحظتي بناء وانهيار في الحضارة العربية - يمثِّل بأطروحته الأساسية حول «العمران» وما يمكن أن تثيره من مسائل أخرى تتفرّع عنها، المساهمة الأولى في دراسة واقع الانحطاط في الحضارة العربية الإسلامية، بحيث يمكننا النظر أيضًا إلى كل المساهمات النظرية التي دارت من حول دراسة واقع الانحطاط في الزمن الحديث على أنها استئناف – بصورة أو بأخرى- على (الهاجس الرئيس) في الأطروحة الخلدونية. إن هذا الاستئناف استند إلى واقع يفرض ويبرر استمرارية الحوار لأنه (أي الواقع) يمثِّل في حدِّ ذاته استمرارية، حضور ومطابقة، لفكر القرون الوسطى".

أضاف "عبَّر هذا الحوار عن نفسه بدءًا بمرحلة الاكتشاف، مرورًا بتمثّل هذا الهاجس، ومن ثم محاولة تجاوزه ونقده ونفيه، وبهذا المعنى فإن تجاوز الواقع العربي الحديث والمعاصر هو في أحد وجوهه تجاوز للدورة المغلقة في التصور الخلدوني للحضارة. ولهذا فإن دراستنا للفكر الخلدوني، تستمد مشـروعيتها وضـرورتها القصوى من استيعاب حقيقة أن الأطروحة الخلدونية مثَّلت حوارًا مع واقع الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى إبّان أفولها، الواقع الذي لا يزال مرسخًا بوجه أو بآخر في الزمن الحديث والمعاصر". 

تبلور السلفية
في المبحث الرابع من الكتاب، أشار عبد الخالق إلى أنه "إذا كانت السَّلفية الأشعرية هي أيديولوجيا أكثر التيارات الإسلامية اتساعًا ومحافظة على التفسير الحرفي للنص الديني، فإنه ليس بمقدورنا إغفال كونها أحد أبرز مظاهر النمو القومي العربي المعادي للتدخل الأجنبي قديمًا وحديثًا، وفقًا لما يقوله الطيّب تيزيني في كتابه (من التراث إلى الثورة) وخلافًا لما يقوله ليفين في كتابه (الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسوريا ومصر". 

يتابع: "لقد ترافق تبلور الخطاب السلفي الحديث مع بداية التسرّب الاستعماري للعالم العربي، والذي عزَّز باستهدافه الصارخ للهويّة العربيّة الإسلامية هذه السَّلفية. ولعل المحاضرة المشهورة للمستشرق الفرنسي آرنست رينان (1823-1892) التي اتهم فيها الإسلام والعرب بمجافاة العلم واضطهاد العلماء، تصلح أن تكون مثالًا أو مدخلًا لهذا الاستهداف، الذي دفع برجل مثل الأفغاني إلى الرّدِّ عليها بمحاضرة طبعت في كتيب، ونشرت في صحيفة «ديبا» الفرنسية بتاريخ (18 مايو 1883).

وأوضح أن المفارقة الكبرى التي تسري في ردّ الأفغاني على رينان، تتمثّل في أنه يكاد يوافق رينان موافقة تامة بخصوص مجافاة الإسلام للعلم والفلسفة! ليس انطلاقًا من أن هذه الخاصية لا تقتصر على الإسلام فقط، بل لأن تعميمها ممكن على الأديان كلها، ومنها المسيحية!، بل إنه يوافق رينان موافقة تامة بخصوص اتجاه المسلمين إلى تغليب العنف في افتتاح البلدان التي خضعت لهم لاحقًا. وإجمالًا". 

إصلاحي وديني
وباستثناء حماسته لتأكيد حقيقة أن كل ما ألّف باللغة العربية هو عربي، حتى لو كان مؤلّفوه ليسوا كذلك، فإن ردّ الأفغاني - بحسب عبدالخالق - يكاد يكون متطابقًا مع الوجهة العلمانية لرينان، ما يفسّر إعجاب رينان بالرّدِّ وسعيه إلى مقابلة الأفغاني، واستنكار السَّلفيين الذين يحسنون الفرنسية ما ورد في الرّدِّ من آراء صادمة، إلى درجة أن هناك من يشكِّك في نسبة كل ما ورد فيها للأفغاني الذي لم يكن يجيد الفرنسية!.

على أن هذا الرّدَّ الإشكالي لم يحل في ما يبدو، من دون اتجاه الأفغاني إلى إنشاء رسالة «الرّدّ على الدهريين»، وهي رسالة تؤكد، كما يضيف عبدالخالق، تناقض الأفغاني من جهة، كما تعزّز الشك في نسبة الردّ على رينان إليه من جهة ثانية.

وقال "إزاء هذا الاستهداف الذي بدا للسَّلفية (نصرانيًا... صليبيًا)، انبثقت فكرة الجامعة الإسلامية كإطار سياسي كوني يمكن أن يتصدّى للهيمنة الاستعمارية، ويقدِّم الإسلام كعقيدة كونية في مواجهة المركزية الأوروبية. وإجمالًا فقد تحدد الفكر السَّلفي الحديث في اتجاهين متلازمين، كما يرى الدكتور كمال عبد اللطيف في كتابه (سلامة موسى وإشكالية النهضة)، اتجاه إصلاحي سياسي تمثِّل فكرة الجامعة الإسلامية لحمته وسداه، واتجاه آخر إصلاحي ديني تمثِّل فكرة العودة إلى النص لبنته الرئيسة.

في هذه المراجعة التي قدمها لنا الباحث غسان إسماعيل عبد الخالق نقارب أول مساهمتين سلفيتين في الفكر العربي الحديث، وما انطوتا عليه من إرهاصات لما نشهده اليوم من مواقف.