يعرض الفنان عمار داود في غالري كريم أساليبا متنوعة تعود لأربعة عقود مضت، تتميز هذه الأعمال المعروضة حاليا بصغر أحجامها، وهذه الأعمال هي حصيلة تجربته الحياتية في الوطن الام (العراق) الذي غادره في بداية الثمانينيّات وايضا بولندا التي درس فيها الفن ومن ثم استقراره في السويد.
يقدم لنا الفنان في هذا المعرض خمس مراحل مهمة، بدأت بالرجوع أسلوبيا الى المرحلة الكرافيكية ثم الانتقال الى المرحلة التجريدية ومن ثم تصوير الطبيعة بأسلوب إيحائي، أتبعه ببحث في شخصية المتصوف الهائم، وأخيرا تعرض الى الحرب والجنس والسحر.
لقد تم نضج عمل الفنان الكرافيكي في بداية الثمانينيات وأنتهى منه في نهاية التسعينات. كانت أعماله في تلك المرحلة تتميز بالاختزال الشديد وشح المفردات التي اعتمدت اللونين الأسود والأبيض، حيث أنجز الأصول الطباعية بأدوات دقيقة جدا تشبه أدوات الصاغة، فقد غلبت على هذه الأعمال شخوص إنسانية تعاني من العزلة داخل فضاءات سوداء كما لو كانت صورا سالبة (نكتف) تعتمد كليا على قدرة العقل التخيلية على ترجمة المشهد. وهذا الجزء السالب لايقل اهمية عن الفضاء او الشكل الموجب الذي بامكاننا تعريفه بانه كل ما كان له شكل ذو حدود معينة. لدينا أيضاً تلك اللغة المحيرة التي طرحها عمار بين الفضاء من ناحية والشكل الموجب والشكل السالب من ناحية أخرى واستهدافه اثارة الإدراك الحسي لدى المشاهد للعلاقة بينهما، حيث يتجلى هذا الاسلوب في العديد من أعماله المعروضة حاليا. وتجدر الإشارة هنا الى ان هذه الأعمال المعروضة اتكأت على تجربته مابين أعوام الثمانينيّات والتسعينيات.
سيرى المشاهد لهذه الأعمال تموضع الاشكال المختلف من حيث الحجم واللون الممتليء حساسية وجاذبية، اضافة الى التناقض والانسجام، والذي يتضمن الكثير من الاوهام المقصودة والتي لاتتطابق غالبا مع الواقع الفيزيقي في عمله الفني، فهي في حقيقتها نتاج تجميع معلومات في الذاكرة يتم تكريسها فيما بعد. وقد استمر عمار في ممارسة هذا الاسلوب حتى في المرحلة التجريدية، فلم تكن تلك المرحلة تجريدا خالصا وانما كانت ولا تزال تحيل الى مفردات يمكن قراءة محمولاتها، وإحالتها الى المصدر. انها محاولة لفهم وتصوير الواقع عن طريق ادراكه وإحالته للمتلقي بصور جديدة، فهي بمثابة حوار بين عمار والمتلقي لفهم الواقع بطرق مختلفة. ويتجلى هذا الحوار المشترك بين الفنان والمتلقي في التقاط هذا الكم الهائل من الاشكال المتناقضة والخطوط المختلفة التي تمت اعادة صياغتها كاعمال فنية تجريدية.
الطبيعة ذات دلالة ايمائية وايحائية
تدرك الطبيعة ذات الدلالة الايمائية والايحائية من قبل المتلقي في اعمال عمار داود بهيئاتها الحقيقية او بشكل متوهم بسبب اعتماد المتلقي على شعوره الاني حين يشاهد اللوحة. ان صور عمار داود ذات المرجعية الطبيعية تعتمد (الرمز) والذي يدرك كرمز بالرغم من شعورنا الملتبس تجاهها.
انني ارى ان عمارا كان يبحث عن حلول وليس حلا واحدا في عرض وانجاز موضوعه. فاذا ما تجردنا من شعورنا بالطبيعة الحقيقية او نسينا ما تحمله الذاكرة من صور نمطية، تتحول عملية الادراك هذه الى أنماط مختلفة فيما بيننا، فنحن ازاء عملية شخصية وخاصة جدا، تغوص بحثا في صندوق التجارب المخفية والمخزون اللاواعي. وهكذا يحصل الرسام على اعداد لاتحصى من اجوبة المتلقي للاسئلة المحيرة التي طرحها في عمله الفني. لا توجد هوية واضحة ولامنظور فيزيقي لفضاءات الاماكن في اعمال عمار داود وانما هي محصلة خزين الذاكرة والمخيلة المحفَّزة لانتاج مكان سري، سحري او لامعقول. لا مكان للذكريات في موضوعات عمار داود ولا انتماء الى طبيعة معينة بالشكل النوستالجي الاكتئابي وربما كان هذا بسبب تاثير تفعيل نشاط مخيلته في اضافة سحر وجمال لأماكن الازمنة البعيدة او المجهولة الهوية.
المتصوف الهائم
من جديد يوقظ فينا عمار داود شعورا برموز لشخصيات هائمة دونتها حضارتنا الانسانية، وقد تمت استعارة شخصيات للكثير من الهائمين في اساطير الشعوب. ومن غوتة الهائم الى ارثور رامبو مرورا بابن بطوطة ومولانا الرومي والحلاج في الحضارة الاسلامية، وتميزت كل هذه الشخصيات برحلاتها وهيمانها على الارض بحثا عن معنى وان اختلفت الطرق والمعاني. فالهائم في اعمال عمار داود هو الانسان المتجول في عوالم الفنان. فلايمكن تجريد روح العمل الفني عن روح عمار ولايمكن قراءتها بعيدا عن قراءته من الداخل، فهي مرآة لما كان يجول في وعي عمار ومن ثم مخيلته، انها بمثابة حصيلة تجارب وأزمان واماكن مختلفة.
تذكرنا احدى لوحات عمار والتي تضمنت شخصا يجلس في طبيعة ذات دلالة ايمائية ايحائية غير واضحة الهوية، تذكرنا بالشخصية الهائمة الزاهدة وبالتحديد في معرضه الذي كان بعنوان الحلاج وطواسينه والذي اقيم في دبي- غالري ميم عام ٢٠١١، حيث زحمة السرد بالرموز والخطوط المتشابكة وتراكم او تقاطع المفردات، ربما اراد داود ان يهمس لنا بحال الحلاج الذي باح بالكثير من الشطحات الملتبسة التي ادت به الى اعدامه.
ثمة لوحة في معرض عمار لرجل متامل وهي لاتخبرنا كثيرا عن حاله الا اننا ندرك مايريد قوله رغم شح اللون والرموز من خلال فهمنا لشخصية عمار المغترب الذي انتقل من وطنه الام ليستقر في عدة مدن اوربية مثقلا بهم وجوده وعذابات ترحاله. ربما يذكرنا هذا الاسلوب ببيان مارك روثكو وزميله الرسام ادولف كوتلب الذي نص على التعبير البسيط عن الفكرة المعقدة، فالرجل في اللوحة هذه هو الاقرب الى بوذا منه الى الحلاج، فهو الامير الذي ترك الرفاهية والملك ليبحث عن حل لمشاكل الانسان ورؤية المستقبل والماضي معا وربما حتى سماع غير المنطوق من مسافات بعيدة، العمل الفني هذا بمثابة تعبير اخر للرصد والتسجيل واستخدام كل الادوات المتاحة ابتداء من الاحاسيس الشخصية وانتهاء بكل مايحيط به من ادوات في الطبيعة المحيطة للوصول الى اعلى مستوى من الوعي الداخلي، فعمار يصور المتاهة الداخلية في البحث عن الاجوبة لاسئلته التي تدور حول هذا الكون بعظمته وفراغه وعبثيته واللاجدوى في وجوده فهذا الكائن الجالس بهدوء في الطبيعة، مع قليل من الالوان المتداخلة والمتجانسة معا يسجل لنا بيانا شخصيا بعيدا عن الملتبس في الفلسفات الدينية والوجودية وغيرها.
الحرب الجنس والسحر
على الرغم من ان عمار داود لم يتعايش بشكل مباشر ولمدة طويلة مع أحداث المنطقة العربية، لكن جزء من نتاجه الفني في معرضه الأخير يشير الى التأثر بما يدور من أحداث فيها وفي وطنه الأم على حد سواء.
وبخصوص ما يبثه العمل الفني تحت تأثير المعاناة بسبب الحروب او العمل الفني كنتاج حروب بشرية دامية، يقول عمار: يتماهى ذلك مع الأهداف البدائية الأولى للطبيعة والنفس البشرية وما أفرزته فيما بعد من فلسفة القوة والسيطرة واستخدام الجنس وهي عناصر يتم نقلها بطرائق مختلفة، فاحيانا نجد صورا فيها مأساة إنسانية على الصعيد الفردي او الجماعي. انه بهذه المفردات الثلاث (الحرب والجنس والسحر) يبدأ تاريخ البشرية، والبقاء للاقوى، اي لمن ينتسب الى القوة المتاحة في هذه العناصر، فلتعلن الحرب اذن لبسط السيطرة، لنستخدم كل الاسلحة المتاحة للفوز سواء كانت حقيقية ام مجازية. لنبدأ باستخدام النفس البشرية، الطبيعة، الوعي واللاوعي ثم اعادة تقييم الذات والقوة الكامنة واللامرئية منها. في احدى اللوحات نجد شخصين احدهم يعتلي الاخر وهو الاصغر حجما، يتفوق فيه الاكبر حجما والذي يتماهى في الانسان الاضعف وكانه يقول كما قال (نيتشة): "اذا لم استطع تعليمك الطيران فدعني اعلمك السقوط". لايمكنك البقاء على الارض تائها باحثا عن الاسمى والارقى والانقى، ولايمكنك العيش كصعلوك باحثا عن الحكمة، فكل هذه المعاني تلاشت في مفردة واحدة وهي القوة، اما البقاء في الفردوس فهو للاقوى "للاُنسان الاعلى" المتفوق الذي يستحق الاستمرار.انه اعلان صريح بان هذه الارض لاتحتمل وجود الضعفاء، يتم اختراع اعداء وهميين وزج الخصوم في معارك دامية، استباحة الدماء والاوطان، التجويع والابتزاز والسبي والتهجير... وكأن عمار يقول : لامفر فالعالم يخوض معركة شرسة يستخدم فيها المتصارعون كل انواع الاسلحة لجر خصمهم الى الخسارة الاكبر، لكنه يعود ليؤكد لنا ان ليس هناك خاسر او رابح في مثل هذه المعارك من خلال تداخل الاشكال والرموز في اعماله والتي صار من الصعب جر خط فاصل لمعرفة حقيقتها او حدودها، ذوبانها وتلاشيها في بعضها افقدنا تقرير ماهيتها ومصيرها.. الحرب التي خسر داود وطنه بسببها عادت من جديد لتؤكد حضورها بعد ان غابت فترة ليست بالقصيرة عن اعماله الفنية، في لوحة اخرى نجد شخص يمارس طقوس السحر وبتركيز كل عناصر اللوحة على هذا المعنى حقق عمار داود ماقاله سي هاريسون كون في كتابه (الفنون السوداء للخلود) ان طرق ممارسة هذه الطقوس هي اشبه ماتكون بممارسة الطقوس العسكرية او الجنسية فعليك تركيز كل حواسك لتحقيق ارادتك والوصول الى هدفك المنشود. وما صناعة العمل الفني الا احدى هذه الطقوس وفي رأيي، فان السحر الذي تعاملت معه البشرية على مر التاريخ الى مطلع عصر النهضة واستبدال العلم به، لم يمنع هذا كما يقول الكاتب دودلي يانك (مؤلف كتاب اصول المقدس- نشوات الحب والحرب).. ان مرورك في اللامرئي لاياتي الا عن طريق السحر. الطبيعة البشرية التي سعت الى تفسير المجهول والظواهر الطبيعية عن طريق الميثولوجيا لم تخرج بعيدا في تأكيد الكثير من الظواهر علميا او نفيها. انها فلسفة قراءة الكون والاجابة على الاسئلة المحيرة للمفكرين والفلاسفة العرب منهم والغربيين. يقول اليستر كرولي الكاتب المتصوف والشاعر الانكليزي ومؤسس ديانة الثيلما : ان بامكاننا تعريف فن السحر بانه حالة خلق للتغيير الذي يحدث بالتوافق مع الارادة، وهو بدوره ايضا يقوم بادخالنا الى عالم الماورائيات، عالمنا الموضوعي واستخدام القوة في فرض الارادة. وهي ما ترك اثاره في لوحات عمار داود، فلا طيارات ولابقايا جثث متناثرة كما صورها بعض الفنانين بطريقة المباشرة في اللوحة الكولاجية الاعلانية، فنحن لانرى حقائب سفر ولا سفن معبأة بالمهاجرين الغير شرعيين. نحن نرى رموز تحاكي فلسفة الحرب والطبيعة البدائية للانسان، لا احد يعلم ان كان عمار سيتابع انجاز مثل هذه الاعمال في قادم الايام ام انه سيكتفي بوضع حد لهذه المرحلة في منجزه وضمن هاجسه الحالي ثم يغادرها الى دون عودة، لكن من المؤكد ان مايجري اليوم في العالم كان قد تمثل في جزء لا يستهان به من مجموعة لوحات هذا المعرض. &انها نموذج اخر للاعمال الفنية السوداء الصارخة نتيجة الظروف السياسية للمنطقة، اعمال لم تكن لتحمل اسم او مرحلة الا انها كما هو واضح تمثل المعاناة الحالية والحقيقية للفنان.
ستوكهولم
٢٠١٧