تفتتح الشاعرة ميثاق كريم الركابي ديوانها:" الرقيمات السومرية " ( دار الجواهري للنشر والتوزيع، بغداد الطبعة الأولى 2016 ) بقولها في الرقيم (1) :" أنبأني العراف: أني سأهوى ملكًا من العراق، عصيًّا على النساء، له عطر الكبرياء ، خطى خطوتين من خريفه، ولازال جبينه ينبض، بربيع وروده .. لم تصل إليه خطوات الجواري" . افتتحت الشاعرة بالنبوءة، وبصوت العراف، وهو الأفق الذي ينهمر فيه ماض ما، وتنهمر فيه رؤى الرقيمات السومرية التي تنأى بالزمن إلى الوراء لتتشح بأساطير، وتعاويذ، ومشاهد غرائبية. فيما تتشح برؤى الكتابة والمحو ومخايلة الأثر.&
ومن هنا تتعاقب المشاهد المؤسطرة في هذا الأفق النبوئي حيث تعبر الشاعرة :" لا تدركينه إلا بالحلم، ولا تلمسينه إلا بالشعر" . هنا تصبح الدلالة ذات طقوس داخل النص، وداخل الديوان بوصفه كلا، ليتوشح القارئ ببعد تاريخي وأسطوري وحلمي متعدد.&
وهنا تأتي التعريفية المستمدة من هذه الأجواء:" أنا الساحرة، أنا الشاعرة التي عرّت قصائدها" . وهي لا تعريها دلاليا لكنها تنقشها نقشا مستدعية دالة الرقيم، التي تشير إلى هذه المسلات الطينية أو الحجرية التي كان ينقش عليها وصايا وتعليمات في العهد السومري قبل الميلاد.&
هي حكاية عشق ممتدة، في (60) رقيما سومريا على حد تسمية الشاعرة، تتواتر في خطاب شعري يدور بين الأنا والآخر، بتبادلاتهما العشقية، تصور الشاعرة هذه الحكاية في مشاهدها الستين لامسة مختلف ما يعترض الوعي الشعري من وجدانات، ومواقف عاطفية، ومشاهد للحب:&
أنا غيمة شعر .. أقطع المسافات بزخات عشق
أنا وأنت والمطر وحكاية ننقشها على رقيمات سومرية
أنا نذور مواسمك
وأنت أعياد قدري
والمطر كائن يحفظ أسرار عشقنا وجنوننا ودموعنا
والرقيمات السومرية
هي أسطورة سحر تعلم الحكماء والشعراء
والملوك والفقراء أبجدية ثمالة الحب المطلق / ص.ص &105-106&
وهي تذكر ذلك مفصحة بتعبيراتها عن احتفائها بالحب، والشعر معا، في مشاهد متعددة تنبث في عدد من النصوص :&
- أطوفُ كتب التاريخ وأصوغ قصصا سومرية جديدة
أدونها برقيمات تغفو على قناديل الشعر / ص 104&
- أريدُ أن أبتكر الليلة أمواج شغف لا تعرفها الخليقة
أريدُ أن أتلو ترنيمة لا تعرفها الكتب المقدسة &/ ص 102&
&
- مع ريح الجنوب آتيك هذا المساء
وبعينيّ كل أساطير أوروك
فتتحول أصابعي إلى ينابيع تحرس أسوارك بالند والعنبر / ص 100&
تتقدم الشاعرة بخطابها للآخر &لتلامس فضاءات متعددة، أبرزها ما يعتمد على ثيمة الحب نفسها، التي تتشح ببعد تاريخي ثقافي، فيما تتأطر بحالات من الوعي الذي يسوّر صورة الآخر بإطار أسطوري كأنه فارس كل اللحظات.&
&
صورالآخرالشائقة:
تنهمر جملة من الصور الكثيفة لتعانق الآخر الوجداني، وتدل من جانب ما على حيوية المشاهد وحركيتها، وتدل على هذه النظرة المتأملة من لدن الشاعرة في استثمار الأشياء، ومشاهد الطبيعة، والمشاهد الحسية المتجاورة المتتابعة معًا، في دفق تصويري تبرهنه طبيعة العلاقة بين الأسطوري والحالم من جهة، وتمثل الجوهر المكاني الذي يحتضن تراثا وتاريخا وحضارة، من جهة ثانية، سأزجي بعض المشاهد المكثفة هنا، وفيها:
- اسألوا الغيمات عنه فهن مرايا حجراته . / ص 10&
- أعدّ أعوام عمره بزهور الأوركيد، وأعمد عشقي بفرات الجنون اللذيذ/ ص 10&
- تجاعيد عينيكَ خارطة عتيقة تحملُ في خطوطها كنوز التأريخ وغموض الأساطير وهيبة الملوك / ص 13&
- أنا ووطني توأمان في الحزن / ص 30&
- خمسة آلاف سنة وعشقي منقوش برقيم سومري/ ص 30&
- أنت كخط كوفي نُقش على مآذن أعوامي / ص 33&
&
العاشق يصبح في مرمى حواس العاشقة، تتأمل فيه، تجوهره، تعدد أوصافه. اللغة الرومانتيكية تطغى على النصوص، مشبعة بأبعاد أسطورية، وبأبعاد من القداسة، وبالرؤية الشاملة للوجود وهي رؤية لا تتفلسف بل تتبسط لتتواشج مع الأفق الرومانتيكي الذي تطرحه الشاعرة، وهنا لا غرابة أن نجد وصفا للعاشق، ولا غرابة أن تتكدس جملة من التعبيرات وتنبث في النصوص لتوصيفه، من مثل:
" هبني من عينيكَ فيروزًا&
أحمله طلسما يمدني بالصبر على جمالهما
فاللحظة معك ممتدة كالأبدية" / ص 33&
وبشكل بارز يتواتر تاريخ المقدس مع الأسطوري، يتواتر طوفان نوح وألواح موسى وأوجاع المسيح مع الحضارات والفصول والألوان والترنيمة والصلاة والمعابد، وتتكرر النداءات كأنها تلاوات شعرية كما في رقيم (23) : يا نجمة سمراء شعت بجنون المجرات، يا نشوة الفراشات، يا همسة بالصدر، يا رجفة الشوق في عذب المساءات" / ص 38&
إن الغنائي في نصوص الرقيمات كثيف ومتواتر، الغنائي الذي يحتفي بكلمات العاطفة، كلمات القيم المعنوية، لا يتبادل الطعنات الدرامية أو ينشئ السياقات الملعونة، أو يغامر بعيدا بلحظات سوريالية، أو يقترف العبثي والعدمي ويبحث عن المكنون، غنائي يحتفي بجمال الحب والعشق، وتجميل صورة الأنا والآخر، فيما يؤرخ الماضي ليستقطر منه لحظة جمالية بسيطة، أو عبق عطر، أو زهرة أوركيد، . الشاعرة لا تسعى في رقيماتها إلى أن تقتنص الغرائبي والعجيب، قدر ما تسعى إلى إشاعة لون من الأنشودة الذاتية التي تحلق حول آخر وجداني مستدعى أو متخيل ، أو تصنع هذا الآخر عبر مخيلتها الشعرية الغنائية الرائقة.&
ولذلك هي ترى أن الحضارة من منظور عاطفي:" حضارتنا لا تتجدد إلا بالعشق، حين تقول أعشقكِ تنفض غبار السنين عن جبين أعوامي " / ص 41&
&
مسكين جدي كلكامش ..!!
سطر التاريخ له ملحمة، وقاتل خمبابا، وراح بأسفار
وأخطار وفقد صديقه من أجل أن يحظى بعشبة الخلود
ولم يفز بها&
لا يعلم أن تلك العشبة موجودة هنا بحقول صدرك
وأنا وحدي فقط من فزت بعشقك
مسكين جدي كلكامش ! / ص 50&
ولا توجد توظيفات للأسطورة في شعر ميثاق الركابي، كما كان الأمر عند رواد الشعر التفعيلي والحر مثلا، يعتمد على تحويل الأسطورة إلى موضوع رمزي، وإلى إسقاط على قضايا الواقع، بل توجد الأسطورة هنا كإشارات عابرة، ككتابة كلمات تصل للجميع، من دون تعمية أو إبهام، والإشارة الأسطورية هنا لا تذهب للتفاصيل لكن تشير فقط، هنا تموز، هنا بابل وسومر، وهنا عشتار، كأسماء فقط داخل سياقات وجمل ولكن دون تفجير للأسطورة أو تخصيها جماليا ورمزيا وفنيا.&
فقط لا صوت يعلو فوق صوت العاطفي والوجداني، كما في هذه المشاهد:&
- من كروم جسدي أصنع لك كل مساء
نبيذًا أعتقه بأساطير المعابد / ص 56&
- منذ أن عشقتك
- وأنا أكتبك آيات جنون بألواحي السومرية. / ص 57&
- أنا منذورة لآلهتكَ
بكفوف خواطري ألملمُ غيوم شغفي / ص 60&
&
امتزاج الضمائر:&
إلى درجة التماهي في الآخر يقلنا الرقيم (37) إلى امتزاج بين الأنا والأنت، " وكأن أنا ذابت بأنتَ فاصبحت تائهة لا أعرف أين أجدُ أنا بي أو بكَ؟" / ص 61 &وهو سبب القصيدة، وهو سبب الكتابة، وسبب تبدل الأمكنة والأزمنة.&
والرقيمات تتغنى بالآخر، وبشمائله وأوصافه، لدرجة الوله الكتابي – إذا جاز التعبير- خاصة في الرقيمات ما بين (40- 46) تمثيلا، حتى إن التفكير نفسه في الآخر الوجداني، يحولها إلى امرأة طاغية العشق، أو القصد: &يحول الذات العاشقة في القصيدة إلى عاشقة أكثر شغفا:" عندما أفكر فيك أصبح امرأة طاغية العشق، امرأة تغسل جسدها بدموع الآلهة" / ص 72&
لكن مع ذلك هناك بعض التعبيرات التي تخرج بالشعر إلى النثرية المفرطة المعهودة مثل:" بعشقك كنت أسعد امرأة في التاريخ" / ص 82 " أبحث عنك لأقول لك: احبك" / ص93&
أو:" أين لمساتك، أين كلماتك، أين ضحكاتك؟" / ص 82&
" فيصبح ماركة عالمية في النشوة" / ص 97&
ولا تغيب استلهامات بعض التعبيرات عن شعرية نزار قباني ومحمود درويش، كما في قولها مثلا:" سأنثر كثيرا من الدمع هذا المساء" وهي عند درويش في ديوانه :" ورد أقل" :" سنرمي كثيرا من الورد هذا الصباح" ، أو استلهام أجواء نزار قباني:" أريد أن أكتب فيك قصيدة تسرق اتجاهات الكون وتمحو الجغرافية، أريد أن أخلق من عشقي لك سبعين قارة تطفو على محيط جنوني" / ص 96&
وعلى الرغم من الغنائيات المتتالية التي تنجم عن الصور الشعرية القريبة المرتبطة بما هو وجداني، والمتعلقة بالطبيعة وأسماء الزهور والحواس، فإن الشاعرة تتجلى أكثر في حالات الفقد والألم، كما في الرقيم (52) ، حيث تكثر الاسئلة وتكثر الاحتمالات ويتدفق أسى شفيف في تعبيرات النص " لا أرى من الغد إلا سوادا كثيفا" .&
وفي تعبير دال تلخص ميثاق الركابي الأفق المعنوي الكلي للرقيمات:" حبيبي قصيدة عشق، وفكرة لها قداسة السماء" / ص 102&
وحدكَ من تملك مفاتيح مداري وانفعال حضاراتي
وحدها خطواتك من ترسم خارطة أهوار تجمل مملكة الجنوب
وحدها المعابد السومرية من تشهد على عشقي / ص.ص 104-105&
وحسب تأويلها الشعري للرقيمات تقودنا الشاعرة إلى هذه الروح الوجدانية التي تتغلغل في كلمات الديوان، حيث تقول في الرقيم الأخير رقم (60) :
الرقيماتُ السومرية هي أسطورة سحر تعلم الحكماء والشعراء والملوك والفقراء. أبجدية ثمالة الحب المطلق&
أن تعشق دون أمل، وتعانق المحن وأنت تغفو على وسادة الرضا
أن تتحول دموع حرمانك إلى حبات ندى تقبل اللآلئ
أن تنفصل عن الزمن&
وتعانق التكهنات
...
أن تنفخ في جسد المحال شيئا من شوقك
عندها
تكون قد نثرت شذى عشقك المطلق
على كل سموات الأساطير
في قبو معبد سومري
هناك ستجد الأجيال
اسمك واسمي ودموع عشق
محفورة على رقيمات سومرية / ص 106&
&
إن الشاعرة تعفّي على أحزانها، باستدعاء حالة عشق طقسية متكررة، وتستعيض عن وصف الألم بوصف الآخر الوجداني، والامتزاج بدالات الحب المتعددة، وهذا الامتزاج نجم عنه نوع من الفرح الدلالي الذي يتسامى على القبح، وينشد – ولو برؤى حالمة أحيانا – عالما أكثر نقاء وأكثر خصوبة وفرحا بجماله وإيقاعاته الوجدانية السامقة.&
&