&إلى ملاك


البارحة ، نمت مبكرا كعادتي، وحلمت بالكاتبة الأمريكية كرسن ماك كلارس...
جاءتني إلى شاطئ الحمّامات قبل الغروب. وكانت حافية القدمين، ترتدي فستانا كذاك الذي وصفته في قصتها"جذْر مُرَبّع البديع"، قائلة بإنه ّ "فستان صيني مُدْهش، منسوج قبل ألفي سنة». وكان شعرها الخمري مصفوفا بعناية ، تاركة خصلة منه تنتشر على جبهتها مثلما هو الحال في صورها على أغلفة رواياتها في كتب الجيب الفرنسية.
في البداية ظلت واقفة ،تنظر إلى البحر وقد بدأ لونه يتغيّر من الأزرق الفاتح إلى الأزرق الداكن، ثم الفتت إليّ،وباسمة شرعت تتحدث بنفس الطريقة التي وصفها بها إيرل شوريس عندما زارها بعد أن اشتدّ بها المرض الذي سوف يعصف بحياتها يوم 29 سبتمبر-أيلول 1967، قائلا:» كانت تتحدث بصعوبة قصوى، باحثة عن مقاطع من كلمات تنتهي بنطقها من خلال تصدّعات صوتها النديّ، مُجْهدة فمها لكي يمنحها نغما ناعما ولطيفا".
في البداية سألتني»:ّالآن وقد أتممت قراءة كل رواياتي أيها التونسي، ماذا تقول عنها؟ "
-أعجبتني كثيرا.. خصوصا"القلب صيّاد وحيد"
-آ...كثيرون لم يصدقوا أنني كتبت هذه الرواية وأنا في سن العشرين... وأية شخصية أعجبتك فيها؟
الأبكم،والبنت الصغيرة التي يمكن أن تكون أنت ، وهي تجول في المدينة لتلتقط أخبار ما يجري فيها من أحداث،ولتكشف أسرارها وخفاياها... وعندما تتعب تجلس لتعزف على البيانو بينما والدها بائع الساعات والحلي يستمع إليها وهو يشرب البيرة الباردة للتخفيف من لهب صيف الجنوب...
ابتسمت،وقالت:» كنت أطمح أن أكون عازفة مشهورة على البيانو ..إلاّ أن الكلمات سرقتني من الألحان والأنغام
تذكرت ما ورد في سيرتها التي أملتها وهي على فراش المرض:» لم أكن أحلم إلاّ بشيء واحد:أن أفرّ من كولومبوس ، وأغزو العالم. كنت أرغب في البداية أن أكون عازفة بيانو في فرقة السيدة تروكر التي كانت تشجعني بحماس كبير. لكن بعد أن فكّرتُ مليّا في الأمر، أدركت أن والدي لن يكون بوسعه إهدائي مدرسة مرموقة مثل"جويليار سكول"، وسيؤلمه ذلك. وبما أنني كنت أحبه كثيرا ،فإنني وضعت مُعقّفا على هذا الحلم، وأخبرته أنني سأنتقل من مهنة إلى أخرى، وأنني سأكون كاتبة ، وهذا ما سيسمح لي بالعمل في البيت.ومنذ ذلك الحين، عوّدت نفسي على أن أكتب كل صباحّ".
قلت لها:» ولكن الموسيقى ظلت كامنة فيك... وكل جملة تكتبينها لا تخلو من موسيقى عذبة
-هذا ما قاله لي تينيسي ويليامز عندما قرأ "القلب صيّاد وحيد"
ذكّرتها بهذه الفقرة في "القلب صياد وحيد:» صمتُ القاعة كان عميقا مثل الليل. ظلّ بيف ساكنا، ضائعا في أفكاره. ثمة شيء استيقظ فجأة في داخله حتى أن قلبه توقف عن الخفقان وكان عليه أن يستند إلى الكونتوار لكي يتلافى السقوط. إلتماعة إشراقة سمحت له بأن يحدسَ صورة الصراع الذي يخوضه الإنسان ، والشجاعة التي يتطلبها هذا الصراع. صورة هذا التيّار الذي من دون نهاية ا جارّا الإنسانية خلَلَ زمن من دون نهاية. صورة من يعملون، وصورة من...أية كلمة أخرى؟ صورة من يحبون.عندئذ إنفتحت روحه لكن للحظة قصيرة فقط، إذأن شعر في داخله بهاجس،وبموجة من الرعب. لقد كان معلّقا بين عالمين. ورآى نسفه وهو ينظر إلى وجهه في مرآة الكونتوار.وكان صدغاه يغشاهما العرق،وجهه ممسوخا، وإحدى عينيه أكبر من الأخرى. اليسرى، بجفن نصف مغمض كانت مستديرة باتجاه الماضي، في حين كانت اليمنى المفتوحة على اتساعها، تكشف بهلع مستقبلا من السواد، ومن الضياع، ومن الخرائب. كان معلقا بين الأنوار والظلمات.بين العقيدة العميقة والتهكم.إستدار سريعا".
شهقتْ من الإعجاب، وبانت الدهشة في عينيها الرماديتين اللتين فتنتا جدتها حتى أنها كانت تسميها"صغيرتي ذات العينين الرماديتين". وكانت جدتها هي التي بادرت ببيع خاتمها الثمين المرصع بالماس والزمرد لكي تسافر إلى نيويورك، وتنتسب إلى معهد لتعلم الكتابة. و عندما عادت إلى مسقط رأسها "كولومبوس"، التقت في شقة أحد أصدقائها ، رييفز ماك كلارس الذي صعقها جماله من النظرة الأولى:» صدمت حالما رأيته، وكانت صدمة لها فتنة رائعة. فالفتى الذي أمامي كان أجمل من كل الرجال الذين رأيتهم حتى ذلك الحين. هو أيضا كان مُغرما بماركس وأنغلس. وكان مُهمّا بالنسبة لي أن تكون له أفكار ليبيرالية في المحيط الرجعي لمجتمعنا في الجنوب".
سألتني:»وما رأيك في روايتي الأخرى:»أغنية المقهى الحزين"؟
-بديعة هي أيضا … كل شخصياتها غريبة، ومدهشة في غرابتها
هي كتبتها من وحي مشهد في حانة في ّساند ستريت" بنيويورك، فيه أقام والت ويتمن. ففي ذلك اليوم كانت برفقة صديقيها جورج دافيس، والشاعر فيستن أودن لما رأت بين الزبائن إمرأة ضخمة الجثة تحتضن بين ذراعيها رجلا أحدب، ضئيل الحجم. عقب ذلك ببضعة أسابيع، كانت مُنشغلة بكتابة روايتها" فرانكي ادامس" لما قفزت الفكرة إلى ذهنها. وفي الحين، تخلت عن "فرانكي أدامس"،وشرعت في كتابة"موسيقى المقهى الحزين" من وحي المشهد المذكور، غير عائبة بلهب الصيف الذي كان يحرق الأرض والناس في "كولومبوس". ولما انتهت من كتابتها، وضعت النسخة أمام والديها،وخرجت لتتجول في المدينة. عند عودتها، عاينت الرضا في وجهيهما.
سألتها:وماذا عن أنيماري؟"
أطلقت تنهيدة عميقة، وقالت وهي تنظر إلى البحر وقد بدأ يظلم:
-ذكراها تؤلمني أكثر من كل الذكريات المؤلمة الأخرى
صمتت لحظة، ثم أضافت: أحببتها بجنون مثلما أحببت رييفز!
هي التقت بها في بيت المدير الأدبي لدار" هاوتون ميفلان" في بوسطن. حالما دخلت، شعرت بأن وجهها سيظلّ يلاحقها طوال حياتها. وجه جميل، صاف جدا، بشعر أشقر، قصير، وعلى ملامحها ظلال وجع يصعب تحديد مصدره وسببه. وفي الحين تذكرت لقاء الأمير ميشكين في رواية دستويفسكي"الأبله" بناتاسيا فيليبوفنا.ومثله أستبدّ بها شعور ب"الشفقة والرعب والحب". وبعد أن توطدت علاقتها بها، علمت أن أنيماري مُدمنة على تناول المخدرات . وبحثا عن ما يخفف وجعها، وقلقاها،واضطراباتها النفسية الدائمة، سافرت إلى بلاد الشرق لتزور مصر، وسوريا،ولبنان، وأفغانستان. وذات يوم باحت لها بالكثير من أسرارها، وأخبرتها أنها ألمانية، وأن والدتها ضاقت ذرعا بها بعد أن اكتشفت وهي آنذاك في السابعة من عمرها،أنها تتناول المخدرات،وتظهر ميلا إلى الأفكار الشيوعية، وتعشق النساء الجميلات مثلها. ولأن والدتها كانت تضربها بشدة، فقد فرت أنيماري من البيت العائلي أكثر من مرة. إلاّ أنّ والدتها كانت تنجح في منعهامن ذلك . وفي النهاية ارتبطت بعلاقة صداقة مع عائلة أرستقراطية ألمانية وتمكنت بمساعدتها من الفرار إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ووفاء لحبها لها،أهدتها كرسن روايتها:» إلتماعات في عين من ذهب". وخلال سنوات الحرب الكونية الثانية، إزدادت أوضاع أنيماري سوءا فحاولت الإنتحار، وأدخلت إلى مصحة للأمراض العصبية. بعدها، عادت إلى أوروبا لتنضم إلى "القوات الفرنسية الحرة" بقيادة الجنرال ديغول التي أرسلتها إلى الكونغو. ومن هناك، بعثت لها برسالة تقول فيها:»نازلة نهر الكونغو حتى ليوبولدفيل، على مدى سبعة أيام بأكملها، كنت أنظر إلى الغابة الكثيفة المتلبّدة ، وكانت تفزعني. فلقد كانت شبيهة بمحيط أخضر ،وبأسوار عالية خضراء على طول الضفة، وبسجن أخضر، من دون فضاء،ومن دون أفق. ثم أمضيت أثنتي عشر يوما في معسكر حربي. أغلب الذين كانوا يقيمون فيه، وعددهم أربعون، غارقون في الكحول، ولا ردة فعل لأي واحد منهم. بعدها قطعت مائتي ميل عبر الغابة الكثيفة المُتَلبّدة لكي ألتحق ب"مولاندا". وهناك اكتشفت فضاء شاسعا فارغا، وخاليا تماما من الأعشاب، وفيه يعيش رجلان أبيضان في عزلة تامة. وقد أقمت وحدي في كوخ كبير من القش .ورغم الطقس، ورغم الوحدة،ورغم كل شيء، تعلمت كيف أقاوم هذا الإنهيار المرعب والمرهق ، وكنت أشعر في داخلي كما لو أن هناك تيّارا هائلا من الفخر ،فكما لو أني عثرت أخيرا على قواعد الحياة الآكثر بساطة والأكثر بدائيّة". آخر رسالة أرسلتها أنيماري كانت من سويسرا ،وفيها تطلب من كرسن أن تسمح لها بترجمة"إلتماعات في عين من ذهب"،وتنصحها بمواصلة الكتابة قائلة:»أكتبي يا عزيزتي،أكتبي ،وأعتني بنفسك كما أنا سأفعل م من جانبي". بعد ذلك ببضعة أسابيع، تلقت كرسن رسالة برقيّة من كلاوس مان،نجل الكاتب الألماني الكبير توماس مان يعلمه فيها أن أناماري سقطت من دراجة، وهوت في وَهْد ، وفقدت الوعي لتموت بعد ذلك في أحد مستشفيات زيوريخ.
نظرت إلى كرسن فإذا بعينيها الجميلتين الرماديتين مبللتين بالدموع
-آسف! قلت لها
-المشكلة أنني أبكي بحرقة كلما تذكرتها...
محاولا أن أنسيها ذكرى أناماري ، سألتها:هل كتبت شيئا جديدا؟
ازداد وجهها شحوبا،وردت قائلة: أنا أرغب في الكتابة إلاّ أنهم يمنعوننا من ذلك
-من؟
-الحرس السماوي!
-وهل هناك حرس في العالم الآخر؟
-نعم.. . وهم أشد قسوة وشراسة من حراس الأرض... وأكثر منهم يقظة وانتباها... ولا حركة تفوتهم. حتى الأفكار التي في رأسي يعرفونها...وهم يقولون لنا:أنتم معشر الكتاب والشعراء والفلاسفة،تقبلوا مصيركم ولا تتعبوا أنفسكم ..ولا تفكروا في فعل ما كنتم تفعلونه في الحياة... وذلك اليوم التقيت جيمس جويس ،وكان حانقا ،غاضبا لأنهم منعوه من كتابة بيت شعري مرّ بخاطره... وفي أول لقاء لي معه، حدثته عن نفسي وعن رواياتي ،فقال لي بإن جميع كتاب الجنوب الأمريكي خرجوا من معطفه... ولكن ما قاله ليس صحيحا تماما.. وأنا شخصيا لا أنكر أني قد أعجبت بأعماله..وأكثر من مرة أعدت قراءة مجموعته القصصية:»أناس من دبلن" ..وكنت أتعجب كيف يمكن أن ينبثق كل ذلك الدّفقُ الشعريّ من شوارع دبلن القذرة .و كلّ سنة كنت أعيد قراءة"صورة الفنان في شبابه" .وحتى وإن كان قد أثر في العديد من الكتاب، فإن "أوليسيس" ظل بالنسبة لي طبقا ثقيلا،وعسير الهضم.أما "يقظة فينيغن" فلم أتمكن أبدا من فك ألغازها. مع ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أؤكد على أني أو غيري من كتاب الجنوب خرجنا "من معطف جويس"،أو غيره. ما يجدر بي أو أقوله هو أننا ثمرة واقع عرفنا كيف نصيغه لكي يكون ساحرا ومرعبا في نفس الوقت...وكنت أرغب في أن أخبره بهذا إلاّ أنه أشاح عني بوجهه،وابتعد بخطى حثيثة...أعتقد أن جويس لا يزال صعب المراس كما كان شأنه في الحياة..وهو يرفض التحدث إلى صاموئيل بيكت محمّلا إيّاه مسؤولية جنون إبنته لأنه لم يبادلها حبها له،ولا يطيق الجلوس والحديث إلاّ مع إزرا باوند،وأحيانا مع همنغواي …
-وكيف حال همنغواي؟
-آ... لقد فقد مرحه،وبهجته ،وبات كئيبا ،متوحدا بنفسه مثل زاهد حبيس معبده...وآخر مرة قال لي بإنه حزين ،وموجع الفلب لأن الناس في الأرض مهتمون بحياته،أكثر مما هم مهتمون بأعماله...
-وماذا عن إبن الجنوب الآخر ترومان كابوتي ؟
-إنه كما كان في الحياة... لا يتعب من الحركة والحديث مع الآخرين..لكنه يكون أكثر مرحا وسعادة عندما يكون برفقة مارلين مانرو... وقد سمعته ذات مرة يقول لها:» آه لو أعود إلى الحياة يا عزيزتي مارلين لأكتب سيرتك لأنه لا أحد سيفعل ذلك مثلي...
-وهل تلتقين أودن؟
-آ...دائما..إنه صديقي الأعز... معه يحلو الحديث عن الأيام الخوالي عندما كنت وإياه وجورج دافس، والموسيقار الشهير بانجامين بريتن، والناقد كريستوفر إشاروورد،ووريتشارد رايت، وبول بوولز وزوجته جين نقيم في بيت بغرف كثيرة في نيويورك. وكان أودن أستاذا بالمعنى الحقيقي والعميق للكلمة. بتأثير منه قرأت كيركوغارد،وتعرفت على شعراء وكتاب لم أكن قد قرأت لهم سطرا واحدا من قبل...
صمتت قليلا ،ثم اضافت:آ...كم أشتهي أن أقرا كتبا بديعة ومثيرة مثلما كان حالي في الحياة.. منذ الطفولة كنت قارئة نهمة... ترسلني أمي لشراء ما نحتاجه للغداء أو العشاء فأعود بكتاب.. ومن الكتب التي لازلت أتذكرها كتاب لكاترين مانسيفيلد.. . من شدة فضولي، شرعت في قراءته وأنا في الشارع.. . وقد أحببت أيضا كتب توماس وولف،وهو جنوبي مثلي.. وربما يكون بحسب نظري أفضل كاتب أمريكي يتقن وصف أطباق الأكل … ههههه
وكنت أحب أيضا كتب فورستر،خصوصا "حيث الملائكة تخشى أن تتقدم". قرأته لي صديقتي ماري مرسر بصوت عال،وكنا نتلوى من الضحك بعد كل فقرة من فقراته. وأنا اعتقد أن كاترين مانسيفيلد لم تكن مُحقة بشأن فورستر.. فقد كانت قاسية معه،وكانت تتعامل مع كتبه باحتقار شديد.. . وعليّ أن أعترف أنني لم أتمكن مطلقا من النفاذ إلى عالم فيرجينيا وولف التي تكنّ لها كاترين مانسيفيلد إعجابا كبيرا... كتبها مضجرة ،وكئيبة وسوداوية...كثير من العتمة وقليل من النور … لعل ذلك يعود إلى تأثيرات طقس لندن ... الكاتبة الأخرى التي أحببتها هي البارونة بليكسن صاحبة"الضيعة الإفريقية". التقيتها في "الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب" التي كانت قد نظمت لها حفل استقبال. وبرغبة مني،وبرغبة منها ،جلسنا حول نفس الطاولة...وأذكر أنها طلبت مني أن أساعدها على لقاء مارلين مانرو، فقلت لها"هذا أمر بسيط". وفي الحين ذهبت إلى الطاولة حيث كان يجلس أرثر ميللر،زوج مارلين، لأبلغه بطلبها. وقبل أن نلتقي هتفت لي مارلين مانرو لتسألني عن نوع الفستان التي عليها أن ترتديه في لقائها مع البارونة بليكس، فكنت أقول لها"ارتدي أي فستان يا عزيزتي...وسيكون ذلك رائعا". وخلال لقائنا، حدثتنا البارونة بليكسن عن إفريقيا التي أقمت فيها سنوات طويلة. وعن حيواناتها المتوحشة. وكانت لها عينان كما لو أنهما جوهرتان سوداوان. وكانت جفونها مزيّنة بالكحل،ولشفتيها حمرة الدم. وقد نفرت في البداية من الجانب المصطنه إلاّ أنني سرعان ما وجدت نفسي منبهرة بشخصية البارونه، وبطريقتها العجيبة في رواية الحكايات ..لكأنها شهرزاد الشرق...لذلك أنا لا أنكر أنني تأثرت بها كثيرا وأنا أكتب "إلتماعات في عين من ذهب"...
للحظات ظلت مُستغرقة في تفكير عميق، ثم واصلت الحديث قائلة: كاتب آخر أحب أن أحدثك عنه ...ألا وهو ريتشارد رايت... تعرفت عليه عندما كنا نقيم في ذلك البيت الجماعي في نيويورك الذي حدثتك عنه قبل قليل... أقام معنا هو زوجته وابنه... ففي تلك الفترة كان من الصعب على السود العثور على شقة محترمة... ولكن علاقتنا توطدت أكثر في باريس التي انتقل للعيش فيها بعد أن ضاقت نفسه بتصاعد العنصرية البيضاء. وكان يحب كتبي كثيرا،ويقول لي بإنني أفضل كاتبة من الجنوب بخصوص وصفي لحياة السود. والحقيقة أنني كنت شديدة السخط على الإذلال الذي كان يتعرض له السود حتى أنني أصبحت أشعر أنني واحدة منهم. وعندما سقطتّ مريضة بحيث لم أعد قادرة على الحركة،زارني ريتشارد رايت في "المستشفى الأمريكي" بباريس، وواساني قائلا بإن والدته أصيب بنفس المرض تقريبا،إلاّ أن ذلك لم يمنعها من أن تربي عدة أطفال. وقد أحزنني كثيرا موته الفجئيّ ،وجعلني أرتعب أمام هشاشة الحياة البشرية".
سألتها:وماذا عن الروس؟
-آ... ومن لا يحب الروس..جميعهم عظماء...دستويفسكي،تورغينييف، غوغول، تشيكوف،،،تولستوي ..وأنا مع الذين يضعون تولستوي في القمة... فمنذ أن قرأت "حكايات من سيباستيبول" ،إنجذبت إليه لأقرأ كل كتبه...إنه عظيم ولا أحد بإمكانه منافسته... وهو شديد الدقّة تماما مثل بروست في وصفه لعصره.مع ذلك لا بد أن أقرّ بأنني أميل إلى الكتب القصيرة،والدقيقة مثل لوحات فيرمر.
-وهل التقيت بعرب؟
-لا ...أبدا ..أراهم فقط من بعيد... وهو يتخاصمون دائما بأصوات عالية... وقد بلغني أنهم كانوا هكذا في الحياة ...واحد فقط أردت أن اتحدث إليه ،إلا أنه أشعرني منذ المحاولة الأولى التي قمت بها بأنه لا يرغب في الحديث لا مع بني قومه،ولا مع آخرين...وهو عجوز أعمى يبدو عليه الوقار وعزة النفس … وقد بلغني أنه كان على نفس هذه الصورة في الحياة...وقيل لي أنه كان نباتيا. وقد أمضى الشطر الأعظم من حياته متوحدا بنفسه، رافضا الزواج والإختلاط بالناس... وكان بودي لو أتعرف عليه ،وأتحدث معه لأنه شخصيته تتناقض مع الصورة التي في ذهني عن الشخصية العربية ... ولكن يبدو أن الأمر صعب...
وكنت أرغب في أن أطرح عليها أسئلة أخرى إلاّ أن كرسن ماك كالارس اختفت فجأة لأجد نفسي وحيدا أمام بحر يغمره ظلام ليل الصيف البديع ….