عن دار "غاليمار" الفرنسية المرموقة، صدر مطلع الصيف الحالي المجلد الرابع والأخير من رسائل الكاتب الإيرلندي الكبير صاموئيل &بيكت &1906-1989 ) الذي عاش الشطر الأعظم من حياته في باريس مختارا أحيانا الكاتبة بلغتها. وهذا ما فعله في "نصوص من أجل لا شيء" &على سبيل المثال لا الحصر. ويحتوي هذا المجلد على جميع الرسائل التي كتبها بيكت في الفترة الفاصلة بين عام 1966 و1989.
وكان بيكت قد طلب من ناشره الفرنسي جيروم ليندن صاحب دار"مينوي" التي أصدت جميع أعماله المسرحية والروائية عام 1965 ألاّ ينشر أيّ رسالة من رسائله. لكن في عام 1985، تراجع عن قراره المذكور ليصدر مجلد من رسائله التي لها علاقة بأعماله. وفي عام 2001، عقب وفاة جيروم ليندن، أهملت وصية بيكت، وشرعت دار "غاليمار" في نشر جميع رسائله من دون استثناء لتكشف هذه الرسائل جوانب خفية من حياة هذا الكاتب العبقري الذي كان يعشق الوحدة، وينفر من الحوارات ومن العلاقات الاجتماعية ، ويفر هاربا من ثرثرة الصالونات الباريسية الأنيقة حيث يكثر التكلف والمجاملات. ومن فرط عشقه للصمت والوحدة، كان بيكت يختار أحيانا التحدث مع زوجته سوزان دوشفو-دومسنيل عبر الهاتف رغم أنهما متواجدان في نفس الشقة . وروى الكاتب المغربي محمد شكري أنه-أي بيكت- كان يحب أن يتناول فطور الصباح في صالون للشاي في قلب طنجة، على بعد أربع أو خمس طاولات من زوجته. فلكأن كل واحد منهما لا يعرف الآخر.
ورغم أن بيكت كان يميل دائما إلى الاختصار الشديد في جل كتاباته ، ومتحفظا في حياته، فإنه يبدو في رسائله محبا للإسهاب، والإطالة لكن من دون أن يثير الملل. كما يبدو مُتْقنا لتلك السخرية المرة التي وسمت جميع أعماله. وتعكس الرسائل البعض من مواقفه تجاه ما يحدث خصوصا على المستوى الأدبي والفني والفكري. أما السياسة فلم ينشغل بها اطلاقا. من ذلك مثلا أن الرسائل التي كتبها في عام 1968 خالية تماما من أية اشارة إلى الثورة الطلابية التي هزت فرنسا في العام المذكور، وإلى الأحداث والتظاهرات الضخمة التي جرت قرب شقته في "دونفار روشرو" حيث كان يقيم. وعندما أعلن فاتيسلاف هافل الثورة على النظام الشيوعي في &ما كان يسمى بتشيكوسلوفاكيا، اكتفى بيكت بأن أهداه مسرحية صغيرة من دون ان يدلي بأي تصريح له صلة مباشرة أو غير مباشرة بأي حدث سياسي. ولعله ورث نفوره من السياسة وأهلها عن جيمس جويس الذي عمل سكرتبرا له في الثلاثينات من القرن الماضي عندما كان هذا الأخير منشغلا بكتابة أثره "يقظة فينغن".
وما نحن ندركه من خلال الرسائل التي كتبها في أواسط الستينات هو أن بيكت بدأ يشعر ب" التعب"، وانتابه احساس عميق بأن نهاية ككاتب باتت وشيكة إن لم تكن قد حدثت فعلا. وربما لهذا السبب، &باتت الكتابة عملية مضنية وعسيرة بالنسبة له. حتى لغته الأم لم تعد تطيعه كما كان حاله في السابق. وفي واحدة من رسائله، كتب يقول :”الكتابة بالإنجليزية التقليدية تزداد عسرا يوما بعد آخر. بل أن هذا يبدو لي أحيانا عملا بلا أي جدوى وبلا أي معنى. ولغتي الأم تلوح لي كما لو أنه خمار عليّ أن أمزقه لكي أصل إلى الأشياء- أي العدم) التي توجد هناك في ا العالم الآخر. ولأنه ليس باستطاعتنا أن نتخلص من اللغة بضربة واحدة، فإنه يتحتم علينا ألاّ نهمل أي شيء يمكن أن يساهم في التقليل من شأنها".
وفي رسالة أخرى هو يشير إلى أنه لم يعد يطمح في أي شيء آخر غير "الصمت" .،وانه أصبح "مُجَرّد هيكل عظميّ يتابع الآخرون من بعيد بطرف العين". كما أن رأسه فرغ من أي فكرة جديدة ونضرة .
وعندما راجت اشاعات تقول بإنه قد يحرز على جائزة نوبل للآداب، انطلق إلى مدينة الحمامات التونسية في خريف عام 1969. في كل صباح كان يذهب إلى الشاطئ ليقضي ساعة أو أكثر سابحا في المياه "اللذيذة"، وفي واحدة من رسائله وصف مشاهداته في الحمامات قائلا:” لمحت قطا وحشيّا كبير الحجم وبطنه يكاد يلامس الأرض. وكانت هناك &أسْراب من الطيور البيضاء مثل لقالق صغيرة .وكانت هناك أيضا أحمرة وديعة مثقلة بعائلات بكامل أفرادها. ولا أثر لأي جمل. أما الناس ففقراء ولطفاء".
وعندما تعلن وسائل الإعلام عمن فوزه بجائز نوبل وهو في الحامات، يجد نفسه مضطرا للتخفي عن الانظار. وقد ساعده في ذلك صاحب الفندق وعماله الذي حموه من "أذى الفضوليين" ليواصل التردد على الشاطئ مستمتعا بالسباحة، وهدوء نهاية الصيف.
وإلى جيمس كناولسون الذي كان يعتزم كتابة سيرته، & كتب بيكت في عام 1972 يقول:” هناك سير جديرة بأن تُكتب. أما سيرتي فليست مهمة في حد ذاتها، ولا علاقة لها بأعمالي. وبكل بساطة أنا لا اعرف الكثير عن عملي تماما مثلما هو حال عامل الرصاص مع الهيدروليكي".
وكان بيكت قد خيّر بعد وفاة زوجته سوزان الاستقرار في مأوى للمسنين في باريس. وعندما زاره ناشره الألماني سوركامب، وجده على أسوأ حال "يتمتم ويتعثر مثل الشخصيات الشقية والمعذبة " في روايته وقصصه ومسرحياته. وقبيل وفاته، مودعا أصدقاءه النادرين كتب يقول :” من فضلكم لقد حانت الساعة أيها السادة تماما مثلما كان يفعل أصحاب الحانات في دبلن عند اقتراب الساعة العاشرة ليلا". وفي رسالة بعث بها إلى نيكولا شكسبير كتب يقول:” المعذرة سيدي عن التأخير في الرد. كنت مُنْفَردا نفسي. وعلى أية حال كنت دائما منفردا بنفسي".