إذا كان وراء كل رجل ناجح امرأة تحتويه، فلعظماء الفنانين والأدباء قاعدة أخرى، إذ إن إبداعاتهم ولدت غالبًا من أرحام نساء لم يكن على قدر كاف من الحنان والصداقة، بل طبعت علاقاتهم بهن السلطوية والحدة.

إيلاف: لا امرأة في العالم تؤثر في حياة المرء بقدر والدته، فتلك علاقة تبدأ خلال فترة الحمل، ولا تنتهي إلا بموت الإنسان نفسه. أما موت الأم فلا يعني انتهاء تأثيرها عليه.

فالمرأة الأم هي التي صنعت هذا الإنسان، وهي التي تابعت أنفاسه الأولى، ورافقت كل أيامه وكل تقلباته، وما تعرّض له في الحياة من مواقف، ويعني ذلك أنها تترك في نفس طفلها أثرًا عميقًا لا يمكن حصره بمجرد ذكريات أو معلومات أو تربية أو تعليمات. 

حضور الغياب
وعادة ما يستمر هذا التأثير حتى بعد زواج الابن أو الابنة والالتزام عاطفيًا بشخص آخر. بهذه المناسبة نذكر ما قاله بيتر سيلرز في أحد الأيام: "عندما يتزوج الرجل يطلّق والدته"، لكن هذا الطلاق لا يكون حقيقيًا بالمرة.

لا يقتصر تأثير الأم على وجودها فقط، إذ يحدث أحيانًا ألا يعايش كل الأطفال أمهاتهم، لسبب أو لآخر، مثل وفاتها وطفلها لا يزال في سن مبكرة أو تخليها عنه أو ابتعاده عنها قسرًا بسبب مشاكل بين والديه. وفي مثل هذه الحالات يترك غيابها أثرًا عميقًا أيضًا لا يمكن قياسه بسهولة.

دربان.. ونتيجة واحدة
لكن علينا ألا نعتقد بأن كل الأمهات يملكن القدرة على التعامل بشكل متوازن مع أولادهن، فهناك أمهات قاسيات لا يمنحن أولادهن حبًا كافيًا أو يحرمنهم من تحقيق الكثير من الرغبات، ويتصرفن معهم بشكل متسلط للغاية. وهناك نوع آخر من الأمهات يمنحن حبًا مفرطًا، ويتدخلن في كل صغيرة وكبيرة في حياة أولادهن، ليحرمنهم أيضًا من الاستقلالية في التفكير والتصرف. والنتيجة واحدة في كلا الحالتين.

المهم في كل هذا الكلام هو أن هذين النوعين من الأمهات هن من يخلقن أولادًا مبدعين ومفكرين وأدباء كما يبدو. أما أن تكون الأم متوازنة فلا يؤدي ذلك إلا إلى إنتاج أولاد اعتياديين.

جاء الإثبات في كتاب صدر حديثًا يحمل عنوان "الكتاب وأمهاتهم"، وهو يتضمن 22 سيرة حياة أو سير ذاتية كتبها باحثون عن أدباء راحلين أو كتبها أدباء حاليون عن أنفسهم، وتركز بشكل خاص على العلاقة مع الأم. أما الآباء فلا وجود لهم تقريبًا في الكتاب كله، فهم إما توفوا أو رحلوا وهجروا زوجاتهم وأولادهم، أو اكتفوا بحضور ضئيل في حياة الأديب. أشرف على الكتاب وحرره ديل سالواك، وهو أستاذ آداب في كلية ستروس في لوس أنجيلس.

وراء فشله الزوجي
جون راسكن (1819-1900) وكان من أهم نقاد الفن في العصر الفكتوري، إضافة إلى كونه رسامًا ومفكرًا اجتماعيًا ومعماريًا وأديبًا، وقد عُرف بكونه حادًا في كل نقده، وفي انتقاده للظواهر السلبية بشكل عام. 

لكن هذا الرجل كانت لديه أم أصرّت على الإقامة معه وإخضاعه لأوامرها حتى وفاتها في سن التسعين عام 1871. يُذكر أنه عندما ذهب إلى جامعة أوكسفورد للدراسة فيها في عام 1837 رافقته أمه، واستأجرت مسكنًا يقع مقابل جامعته تمامًا، وكانت تجبره على ترك أصدقائه الطلاب كل مساء لتناول طعام العشاء معها، وقضاء الليل هناك. 

كان جون راسكن طفلًا وحيدًا، وكانت أمه تتعامل معه بكثير من الحدة، حتى إنها حرمته من الحصول على ألعاب في صغره، فكان يمضي الساعات، وهو ينظر إلى حركة أشعة الشمس على السجادة، ويتسلى بحزمة مفاتيح وقطع خشبية كان يصنع منها أبراجًا. وقد منعته أمه من قطف الثمار في حديقة المنزل حتى بعدما أصبح رجلًا. كتب سيرة راسكن، أنتوني دانييلز، وأشار إلى فشل الناقد في زواجه، واعتبر أن والدته كانت السبب في ذلك.

سلطوية زائدة
نموذج آخر هو صامويل بيكيت، التي كانت أمه متسلطة هي الأخرى، وقد كتبت البحث المخصص له مارغريت درابل.

توفيت والدة بيكيت، واسمها ماريا جونز رو، وكانت تُعرف باسم مي في عام 1950، وتذكر درابل أنها كانت مولعة بممارسة السلطة على ابنها العصابي، الذي كان يعاني من تعرق ليلي، ومن نوبات هلع متكررة ومن حالات أرق ومشاكل في التبول، ولكن تسلطها كان ممزوجًا بقلق حقيقي عليه، وكانت هي المسؤولة الوحيدة عنه. 

فعندما ذهب إلى باريس مثلًا تعرّض إلى حادث طعن، فعاد لتعتني به. وكان صامويل معروف أيضًا بالإفراط في احتساء الخمر وبالغضب العنيف المفاجئ، وكان يحطم صحون المنزل على الدوام. وعندما كان يسافر كان يذهب برفقة أمه، مثل رحلته الشهيرة في العديد من المدن الانكليزية.

تذكر درابل أن والدة صامويل كانت هي الأخرى غضوبة على الدوام، وتدخل في مشاكل دائمة مع الخدم ومع ابنها، الذي لم يستطع التخلص من تأثيراتها السلبية عليه، رغم حبها له واهتمامها به بشكل عام.

موت الإبداع
فيليب لاركن (1922-1985) هو شاعر وروائي انكليزي أمضى ثلاثين عامًا من حياته مسؤولًا عن مكتبة جامعة هال، وكانت والدته إيفا، التي ترمّلت في عام 1948 تشبه في تصرفاتها والدة صامويل بيكيت، مع اختلاف بسيط في شعور فيليب نفسه تجاهها، إذ كان يعتبر نفسه المسؤول عنها بشكل كلي. لاركن قاوم توسلات والدته أيضًا للإقامة معه في بيت واحد.

مع ذلك كانت العلاقة بينهما متينة جدًا، إذ كانا يتبادلان الرسائل يوميًا منذ التحاقه بأوكسفورد في عام 1941 وحتى منتصف السبعينات، كما كان يزورها في كل نهاية أسبوع، ولا يخرج في رحلة إلا معها، حسب ما بيّن كاتب سيرته فيليب بولن، الذي كتب يقول: "كان يحب والدته أكثر وأعمق من أي شخص آخر في حياته". لذا لم يتزوج رغم دخوله في علاقات عديدة مع نساء مرموقات، لأن كلًا منهن كانت ستحتاج التزامًا عاطفيًا، ما كان قادرًا على منحه إلا لوالدته. وعندما توفيت إيفا في سن الـ 91 في عام 1977، توقف إبداع لاركن، ولم يكتب أي كلمة بعد رحيلها.

تأثير سلبي
بدوره لم يستطع وولت ويتمان تجاوز ألمه بعد وفاة والدته. وكان ويتمان (1819-1892) شاعرًا أميركيًا وباحثًا وصحافيًا، ويحمل لقب أب الشعر الحر الأميركي.

أرنست همنغواي تأثر أيضًا بوالدته التي عاملته كفتاة حتى سن السادسة من عمره، وقد أثرت كثيرًا على نتاجه الأدبي، وحتى على حياته الشخصية. أما شكسبير فتزوج بامرأة تكبره بثمانية أعوام، ويعزو كاتب سيرته هيو ماكري ريجموند ذلك إلى تأثير والدته عليه.


أعدت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "دايلي مايل". تجدون المادة الأصل منشورة على الرابط أدناه:
http://www.dailymail.co.uk/home/books/article-5479345/Behind-brilliant-man-bossy-mother.html