&
&
هل يمكن لعملية التبادل الاستعاري بين الكلمات في النص الشعري أن تصنع حالة توتر درامي بين الذات والعالم؟ الذات : جسدًا وروحًا، والعالم بمختلف مفرداته وأشيائه وتفاصيله الصغرى أو الكبرى؟
على اليقين نحن حيال الشعر لا نتوقف كثيرًا لنشير إلى أن اللغة الشعرية هي بمثابة كيفية جمالية تعبيرية خاصة لها شأنها في صنع المواجهة الخلاقة بين الذات والعالم، ولها شأنها في إبداع هذا العالم وتغييره ولو عبر الكلمات.&
إننا حيال وعي جمالي بهذا التبادل تنهض به الشاعرة والفنانة التشكيلية رانيا كرباج في ديوانها الخامس :"& السماء هنا " ( دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2018 ) الصادر بعد دواوينها : " وصايا العطر" و" أرض وورد" و" يدي ملطخة بالحب" و" أين أنت؟" الصادرة خلال الفترة ما بين 2010-2015& حيث ترسم أفقا شعريّا& ينهض على المبادلة والتحول، مبادلة الدوال الكبرى التي تشكل عناصر الطبيعة والوجود، بدوال أخرى في أفق استعاري يسعى لأن يجلو بصيرة الأشياء، وتأملها، والكشف عما تكنه من صور، ومعان، ورؤى، فيما تعمد إلى أن تتحول الذات إلى تقمص ذهنية الأشياء ووعيها، والتماهي فيها في حركة شعرية تذكر لا بتراسل الحواس وتماهيها في الاتجاهات الشعرية الرمزية، ولكن تذكر أيضا بالأفق السوريالي حيث يشكل تيار الوعي الحر الذي يعمد إلى خلخلة الأشياء وإعادة تسميتها، وإلى توصيفها من جديد حيث تتلاقى المتضادات، وتتسارع اللحظة، وتتشخص الكائنات والأشياء في نسق حلمي أو كابوسي متصادم مع منطق الأشياء وتراتبها الدلالي المعهود.&
&
&
إن نص المستهل الذي جاء في عنوان:" غدًا قد لا أكون " / ص.ص 5-7 يحمل بعدًا دالًّا على أيلولة ما تواجهه الذات الشاعرة، فالعنوان قد يحمل معنى الارتياب والشك، ولا يغير المعنى تماما، بتقريب احتمالات اللا كينونة. الارتباط زمني بالجوهر، بالقادم بالآتي بالمستقبل، أي بفعل يجري في سياق المحتمل، حيث لا نعلم تماما ماذا يحدث غدا، الشاعرة تقرر: غدا قد لا أكون. فماذا يحمل النص إلينا في هذه الرؤية؟&
تقول الشاعرة:&
غدا قد لا أكون
وفي جوفي كونٌ لم يتكون بعد
&
غدًا قد يعود جسدي إلى الأرض
وفي روحي تهدر ريح
قد أولد سمكةً
وأفقد حاسة اللمس
أو شجرة
ولا أتمكن من الهرولة
غدًا قد لا أكون أنثى
وأفقد رحمي
ومركز الأرض
وقد أتحول إلى عشبة
لا حول لها ولا قوة
قد أولد زهرة، وأفقد عيوني
أو بضع حصى
ولا أشعر بالحب / ص.ص 5-6&
&
النص يصنع تحولاته الدلالية والسياقية، ومن ثم يصنع صوره ومعانيه وأخيلته المتحولة:&
قد أولد سمكة، أو شجرة ، أو أتحول عشبة. إنه تضامن مع الأشياء ، أشياء الطبيعة بل والتحول إلى مسمياتها بتقمصها وتخييلها، لرصد البعد الدلالي الذي يكتنف تشخيص الأشياء وتحريكها وبلورتها فنيا. وهي في هذا السياق تقوم بعملية تبادلية استعارية تجعل الذات تحل في الأشياء الأخرى : سمكة، شجرة، عشبة، زهرة، زقزقة، عطر من الأرض، نكهة في ثمرة، سحابة، وهي في هذه التبادلية التي تتجلى فيها الذات في الشيء تتقمص دلالات هذا الشيء، تُستنسخ فيه، تتخذ صيرورته، وتتحد مع الوجود بالمعنى المجازي للشعر، كي تكشف عن رؤى أخرى ومقاربة أخرى لتغيير العالم وتحويله، حتى تصل في نهاية النص للامتزاج الوجداني مع الآخر:
غدا قد يأتي ولا يأتي
فهبني حبيبي نفسك اليوم
لنتكاثف
ونهطل
كما لم نهطل يومًا. / ص 7&
في أفق هذا التحول، في أفق هذا الامتزاج بالشيء والآخر تنبثق رؤية مختلفة من توسيع الفضاء التعبيري حيث لا يصبح صوت الشاعرة هو المتكلم بالضرورة، حيث تتكلم الأشياء وترصد بعين محايدة أو متضامنة، وتقول سلسلة حقولها الدلالية المنبثقة عنها هي لا عن الشاعرة بالضرورة. الشاعرة هنا راسمة أشياء، وصانعة كلمات، ومتأملة ، والأشياء هي التي تدل وتبوح وتقول.&
بيد أن الدلالة الأبده والأكثر جوهرية هنا تتمظهر في أن لهذا التحول دلالاته التي تصبو لتغيير الأشياء وتلقيبها من جديد، وصنع حالات جديدة كما في هذه المشاهد:&&
- قد تغير الرياح اتجاهها&
ونتحول إلى مجرد فكرة / ص 8&
&
- تعال نلتق كما الفراشات
أنا أرفرف وأنت ترفرف عاليا
فلا نسقط في ثقب قلبنا الأسود عراة لا يثقلنا سوى توقنا / ص 11
&
ونجد ذلك أيضا في هذا التوحد والتماهي والذوبان في الآخر كما في نص:" بعض مني وبعض منك" ص 12 وما بعدها
وفي نص :" سأحذو حذو الريح"& يتجلى التحول بشكل دلالي كثيف ، كما أن هناك تحولا آخر، وهو التبعثر في أشياء الكون:
سأحذو حذو الريح
وأتبعثر
أهب كياني للكون
وأعود ذرة
بلا عنوان ولا لون . / ص 25&
- كنتُ كلمة تزحف في عقل الكون
تحلم أن تتحول&
إلى موسيقا
إلى زهور وثمار وأشعار
تحلم أن تتحول إلى خليقة / ص 34&
أو كما في هذا التحول : في نص:" نفسي تحوم" كسمكة، كفراشة، كنفس، ص.ص 39-40&
إن أثر هذا التحول من دال إلى دال، وأثر هذا التبادل الاستعاري يفتح أفقا رحبا أمام الشاعرة لتمس أشياء الوجود وتتقمص حالاتها، وهنا يتسنى لها أن تحيل العمل الشعري إلى حالة رمزية واسعة، أو أمثولة تعبيرية يمكن من خلالها نفي سلطة وجود الذات أو الإشارة إليها تحديدا، وصنع أقنعة استعارية يمكن من خلالها إسقاط حدث ما، أو تورية موقف ما من الواقع تنتقد فيه تابوهاته، وقبحه، وتصبو لتغييره صوب نموذج أرقى وأمثل.&

هاجس رومانتيكي:&
&
يشكل الأفق الرومانتيكي هاجسًا تعبيريًّا بالديوان، وهو يتواتر بوصفه ظاهرة من ظواهر الأداء الشعري الذي تسعى عبره الشاعرة إلى البحث عن نموذج مثالي يلملم أحزان الذات من جهة، ويتجاوز الحدث الدرامي المأساوي الذي يلف لحظتنا العربية الراهنة، ولهذا نجد هذه الظاهرة ممزوجة بالشعرية المنتجة اليوم، وفي كل عصر حقيقة، يشعر فيه العربي باغترابه،& لأن هذه الظاهرة لا تجمّل الشعر، ولا تمنحه صوته الجميل الصادح فحسب، ولكنها تقربه بشكل أو بآخر من طبيعة الإنسان العربي الشرقي الباحث دائما عن شجنه الخاص، عن حبه وعاطفته، عن انفعاله الغنائي الإنشادي.
عبر هذا الوعي نجد نصوصا كثيرة لدى الشاعرة تتخذ هذا الهاجس الرومانتيكي مهادا ومدارا لتعبيراتها، بحيث يشكل هذا الهاجس نوعًا من الخلاص من هذه اللحظات الدرامية المتسارعة:" أيها العالق مثلي بين فكي العمر، هبني رغيف حب وخذ قلبي قبل أن نتناثر ذرات لا حول لها" / ص 8 وفي مشهد آخر تقول:&&
&
أنا أرى عبر ثقب الجمال
لك أن تتهمني بالجنون أو بالرومانسية
لك أن تسمي ما أقول:" أدبًا نسويًّا " لا يعول عليه
أو سوريالية&
لك أن تعتقد ما تشاء
حسبي أنني الآن أرقص
وأنت غارق تدخّن غليونك
وتكتب عن الشقاء / ص 18&
&
الشاعرة تبحث عن الجمال، في الكلمات، في الطبيعة، في الوجود، في الشعر، وهي تبين ذلك في أكثر من تعبير وأكثر من نص، كما في نصها:" لا شيء سوى الجمال" ص.ص 36-38&
إن الهاجس الرومانتيكي الوجداني لا يبتعد كثيرًا عن مجمل الوجهات الدلالية لدى رانيا كرباج، ثمة تفتح وإشراق، وبحث دائب دائم عن هذه الوجهات التي تتحقق بالتأمل في كينونة الآخر، في استدعائه، في تمثل حضوره أو غيابه أو مواقفه، في النسج على مواقيته العاطفية، في مشارفة وقع وصله أو هجرانه، وكأن الرومانتيكي هنا بمثابة فضاء يقل الذات إلى شفافيتها وإلى الفرار من أفق الواقع الأكثر ضراوة، والأكثر تسارعا في دراميته وأحداثه المؤلمة، وهنا تبحث الذات الشاعرة عن ضوئها الشفيف، وتتحدث رومانتيكيا:
أشدُّ الشمسَ من عينيكَ
وأتدثر
العالم صقيع هنا
ولا دفء سوى&
في تلك الفتحة الصغيرة
التي تطل منها روحك / ص 78&
&
ومن جانب آخر أوسع إشراقا، وأكثر بحثا عن الإضاءة الكونية الكبرى تقوم الشاعرة بنسج نص ضدي، ينزل السماء إلى أرضها، وتجسد بقدر من التخييل الاستعاري البلاغي الصورة السماوية لتصبح (هنا) لا هناك، لتصبح ملموسة لا متخيلة ذهنيا أو رؤيويًّا. هذا ما يقوده إلينا تأويل نص :" السماء هنا" الذي يُعنونُ به الديوان وكأنه يشكل البعد الصلد الذي يستند عليه الديوان في رؤيته الدلالية.&
تستهل الشاعرة نص:" السماء هنا" ص.ص 80-82 بالقول:&
وهذه التي فوقنا ليست بسماء
هو فقط اللونُ الأزرقُ يتمددُ عاريًا
محاولا إغواءَ الأرض
السماءُ هنا&
السماء مجرد لون أزرق، الشاعرة تنفي بشكل مباشر وجود سماء، وهذا من عمل الشعريّ المتأمل، لأنه يعيد تلقيب الأشياء، نفيها أو إثباتها للتأكيد على معنى ما، أو على رؤية تنتظم في سياقات النص. حيث تصل إلى يقين شعري داخل النص بأن السماء:" هنا" لا هناك. فما هي السماء التي هنا تبعًا لما يقوله النص؟ إنها السماء الملموسة التي تتحرك على الأرض " كل الصلوات التي رفعناها إلى فوق كان يجدر بنا أن نهمسها في أذنها، أما الآلهة التي نصبنا لها عروشا عالية فهي بيننا، أمواتنا هم أيضا هنا، أحلامنا، أرواحنا كلها ترفرف في هذا المكان" كما تعبر:" من قال إننا من التراب إلى التراب، قد نكون من السماء إلى السماء" " المهم أن ما نراه فوقنا ليس سوى فنان يعيش بشغف مرحلته الزرقاء" . هكذا تعبر الشاعرة وتجلو سماءها الشعرية التي تراها ملموسة على الأرض.&
&
صورة الحرب :&
من أول نص:" أكاد أسمع صوت النوارس"& ص.ص 128 -& 133 حتى نهاية الديوان / ص 148 تهيمن على النصوص ظلال الحرب المأساوية في سوريا، بل إنها تهيمن على معظم النصوص التي تنداح فيها دلالات الحزن، والأسى المنهمر أو الكامن في سياقات العبارات الشعرية ، والذات الشاعرة في تخيلها وتأملها، رغم الانكسارات التي تحدق بها من واقع رديء تعطي الأمل، وتحث على تجديد الأشياء وتغييرها، وعلى ملامسة المثالي فيها .&
اتركوا الأشواق تأوي إلى أعشاشها
من حين إلى حين
لا تخافوا إن انسدل ليل على الأحداق
إن هبت صحراء على زهرة
أو طاف جرح على مدينة
فلا أحد يستطيع أن يقتلع الأشياء الأصيلة . / ص . ص 143-144&
&
وتشكل دالة:" الموت" مشهدا بازغا من مشاهد الديوان، لكنه موت لا للتعبير عن الفناء والعدم والهباء، ولكنه موت للرؤيا – إذا جاز الكلام –&
ففي نص:" الموت قريب" تصفه بأنه:" المعنى يعرشُ على صدر اللا معنى كي تغدو لوحة الحياة أكثر غموضًا" / ص 97&
ومن وجهة شكلية تتراوح نصوص الديوان بين صفحة واحدة بنصوص قصيرة ومضية مكثفة، وما بين صفحتين إلى أربع صفحات، حيث تتواتر المقاطع الشعرية المتضامة مشكلة النموذج النصي الذي تتراكب بنياته على شكل مشاهد أو مقاطع شعرية متواترة، تؤلف نوعا من الكولاج الشعري الذي تتعدد فيه الموضوعات النصية لكن في إطار نصي موحد، وقد تستثمر الشاعرة التراث الديني والأسطوري كما في نص:" قارورة شعر" وقد تعيد نسج بعض الآليات التناصية داخل نصوصها، لكنها بكل الأحوال تصبو إلى تقديم سماء شعرية خاصة بها، بأجوائها وأشيائها الأثيرة بل بزرقتها الباعثة دائما على السؤال، والباحثة كذلك عن المثال عبر تغيير الدلالات ومبادلتها، ومن ثم تغيير ذهنية القارئ النمطية في قراءة العالم.&
&