يقول مايكل شيرمير إن الإيمان شيئ، والدليل على وجود الجنة شيئ آخر، ومن بين 100.5 مليار شخص مرّوا على هذه الحياة وماتوا، لم يعد منهم من يؤكد وجود الآخرة. فهل تخطت الإنسانية هذه الحقيقة، بمساعدة التقانة الحديثة؟.

إيلاف من بيروت: يؤمن ثلث الملحدين واللاأدريين الأميركيين بالجنّة. هذا إحصاء محيّر، لكن كما يشرح مايكل شيرمر في كتابه الأخير "السموات على الأرض: البحث العلمي عن الآخرة والخلود واليوتوبيا" Heavens on Earth: The Scientific Search for the Afterlife, Immortality, and Utopia (320 صفحة، منشورات هنري هولت وشركاه، 30 دولارًا) لا ينبغي أن يفاجئنا ذلك. 

وهو كتب في هذا السياق: "الأدلة تشير بشكل كبير إلى النظرية القائلة إنّ الإيمان بآخرة نفسية أو روحية أمر طبيعي وبدهي"، وهو إيمان متأصّل في أرواحنا، يظهر في الثقافات والأديان في جميع أنحاء العالم عبر التاريخ. حتى إن البشر البدائيين دفنوا مع موتاهم قطعًا أثرية لتزويدهم بها في الآخرة. وما دامت الكائنات البشرية موجودة، فعلى الأرجح سنؤمن بالجنة دائمًا.

لكن الإيمان شيئ، والدليل على وجود الجنة شيئ آخر؟. وبحسب شيرمر: "من بين هؤلاء الـ 100.5 مليار شخص الذين مرّوا على هذه الحياة وماتوا، لم يعد أحد منهم ليؤكد وجود الآخرة". لذلك، فإنّ الصحافي والمتشكك المحترف شيرمر ألّف كتاب "السموات على الأرض" ليفحص مدى صمود مزاعم وجود الآخرة في ضوء العلم الحديث. 

الأكثر إثارة للاهتمام بعد، أن شيرمر يحولّ نظرته المشككة نحو العلم نفسه، خصوصًا نحو المزاعم بأن التقنيات الجديدة قد تمدّد بشكل كبير عمر الإنسان وتفتتح نوعًا من الجنّة هنا على الأرض.

روايات شهود العيان
يوضح شيرمر أن أحد أسباب عدم الثقة بوجود حياة الآخرة هو أن رؤى الفردوس "مقيّدة ثقافيًا ومحددة جغرافيًا بشكل واضح".

فالكتاب المقدس، على سبيل المثال، يتحدث عن الحدائق المورقة والأراضي التي يسيل منها الحليب والعسل، وهو بالضبط نوع الأشياء التي يتوق إليها مؤلفوه، أي بدو الصحراء الرحل. بينما سخر الإنويت عندما قام المبشرّون المسيحيون بوصف جنّة لن يجدوا فيها فقمة يصطادونها.

ينتقد شيرمر بقسوة أكبر "روايات شهود العيان" عن الجنّة التي يرويها أشخاص كادوا يموتون، ومن المفترض أنهم زاروا الآخرة. من السهل تفسير بعض هذه الروايات: فكما يقول شيرمر، "في بعض الأحيان يختلق الناس أمورًا".

في عام 2010، أصبح كتاب "الولد الذي عاد من السماء" The Boy Who Came Back of Heaven، أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم، قبل أن يعترف مؤلفه أليكس مالاركي بأنّه اختلق كلّ شيء. لكنّ شيرمر يقرّ بأن معظم تقارير شهود العيان صادقة، حتى لو كانت خاطئة على الأرجح. ويجادل قائلًا إن أولئك الناس اختبروا الجنّة حقًا، لكنّ هذه التجربة جرت بالكامل داخل رؤوسهم. ويشبّه رؤاهم برحلة مخدرات أو هلوسة، ناجمة من الإجهاد والصدمة من الموت الوشيك.

عنيد عند الحاجة
هذا لا يعني أن شيرمر يرفض ببساطة هذه التجارب الخارقة للطبيعة، ويكتب في هذا الإطار أن التفسيرات العاطفية لهذه الحوادث الغريبة، تمنحها أهمية بغض النظر عن أسباب حدوثها. بتعبير آخر، حتى لو كانت التجربة خيالية، فمن الممكن أن يكون لها معنى حقيقي بالنسبة إلى الأشخاص المعنيين، وهي قد تبدّل حياتهم إلى الأفضل.

هذا جزء سخيّ يسلط الضوء على إحدى فوائد الكتاب. وربما يكون شيرمر عنيدًا عند الحاجة، فيكاد ينهك صفحات القاموس ليجد مرادفات مختلفة لكلمة هراء مثلًا: gobbledygook وwoo-woo وnonsense وbafflegab وbullshit. 

لكن، خلافًا لبعض الملحدين المتشددين مثل سام هاريس وريتشارد دوكينز اللذين يزدرون المؤمنين، فإنّ شيرمر على استعداد للتعامل مع أشخاص متديّنين ومحاولة فهم وجهة نظرهم. فهو صديق للداعية إلى الهراء، ديباك شوبرا، وفي مرحلة ما من الكتاب، يزور منتجع "نيو آيج" الصحي الذي يديره شوبرا، ويناقشه في طبيعة الوعي.

في الواقع، تمثّل هذه المواجهة تغييرًا منعشًا. فمعظم عمليات إطاحة الدين تقوم بوعظ الأشخاص غير المؤمنين، وهي بالكاد تقنع المؤمنين الحقيقيين بالتراجع. وربما لن يقنعهم كتاب "السموات على الأرض" أيضًا، لكنّ شيرمر يستمع إلى أشخاص يحملون ميولًا روحية ويُشركهم في نقاش شرعي.

الفراغ؟
كما يقدّم الكتاب خدمة قيّمة في التدقيق في الرؤى العلمية والحديثة للآخرة، وبعضها غير متواضع. يقتبس شيرمر قول أحد الأشخاص المفعمين بالحماس: "من بين ثلاثة أحلام للخيميائيين، حققنا حلمين: قمنا بتحويل العناصر وتعلمنا الطيران. والآتي هو الخلود". هذا سهل جدًا.

ينطوي بعض مقاربات الخلود العلمي على القضاء على الأمراض وإبطاء عملية الشيخوخة في الخلايا. البعض الآخر مبالغ فيه أكثر، مثل تحميل عقولنا إلى أجهزة الكمبيوتر، أو تجميد رؤوسنا على أمل أن تتمكن الأجيال المقبلة من إعادة تشغيل أدمغتنا. كما هي الحال مع المعتقدات الدينية، فإن شيرمر يجرؤ دائمًا على التحدث عن مثل هذه الأفكار، لكنه يثقب فقاعة الحماس مرة تلو أخرى. ويمكن عشاق الخيال العلمي أن يعترضوا على درجة الاستحالة النسبية التي يعزوها الكاتب إلى بعض المقاربات، لكن يبدو من غير المحتمل أن يصل أي شخص على قيد الحياة اليوم إلى عمر 150 عامًا مثلًا.

إذًا، إن لم تكن الجنّة موجودة، ويبدو الخلود مستحيلًا، فهل هذا يضع حياة البشر في حالة من الفراغ؟ لا، على الإطلاق، وفقًا لشيرمر. وبدلًا من كشف المزيد من الأفكار، ينحرف خلال الجزء الأخير من الكتاب ويوضح كيف يمكننا أن نبني حياة ذات معنى، من الناحيتين السياسية والشخصية.

أحلام إنسانية بالخلود
على الجبهة السياسية، يدرس سجلات مختلف الحكومات الطوباوية، التي يعادل السماء على الأرض - على الأقل من الناحية النظرية. ومن الناحية العملية، تتدهور اليوتوبيا في كثير من الأحيان إلى الفوضى والإرهاب.

لذا، بدلًا من اليوتوبيا، يروّج شيرمر لفكرة الـ "بروتوبيا"، أي حكومات تهدف إلى تحسين حياة الناس ليس دفعة واحدة ولكن بشكل تدريجي. 

وفي ظل حكومات البروتوبيا، ينبغي أن يشهد كلّ جيل تراجعًا صغيرًا في الفقر وفي الجريمة وفي المرض. إذا كان هذا يبدو مألوفًا، فهذا طبيعي: لأنّه بالضبط نوع الحكومات الذي كان موجودًا في الولايات المتحدة وكندا وعدد من بلدان أوروبا خلال القرون القليلة الماضية.

بالنظر إلى معدل التقدم هذا، ربما لا نضطر إلى التخلي عن أحلامنا الإنسانية بالخلود، بل نقوم ببساطة بتعديلها. هناك احتمال كبير أن يصل البشر إلى المريخ والكواكب الأخرى على مدى القرون القليلة المقبلة، ما يضمن أن أسلافنا سيستمرون - ربما إلى أجل غير مسمى - إذا حدث شيء كارثي جعل الأرض غير صالحة للسكن. 

يعترف شيرمر: "ربما يكون من المبالغة القول إن هذا الشكل من خلود الأنواع يرضي رغبتنا الشخصية في العيش إلى الأبد، لكن هذا شيء يستحق العمل من أجله".

أمنيات
هناك رسوم هزلية قديمة لـ"كالفن وهوبز" يطرح فيها كالفن على هوبز سؤالًا: "إذا كان بإمكانك الحصول على أي شيء في العالم الآن، ماذا يكون؟" يجيب هوبز: "شطيرة".

يشتكي كالفن من هذه الإجابة الغبية، ويقارنها برغباته الفخمة في الحصول على "تريليون مليار دولار، ومكوك فضائي، وقارة خاصة به!" لكنّ الإطار الأخير يظهر أن كالفن بائس وهوبز مناضل، بينما يمضع الأخير شطيرته بشهية. 

يتباهى هوبز: "حصلت على أمنيتي". بطريقة ما، هذه هي العبرة الحقيقية من كتاب "السموات على الأرض". فمن المؤكد أن عقولنا وذكرياتنا لن تنجو من الموت، ومن المرجّح أن الجنة غير موجودة، لكن حتى لو خذلتنا هذه الآمال السماوية، فهناك أشياء حقيقية، حتى لو كانت متواضعة، للعمل من أجلها هنا على الأرض.

يصف شيرمر نفسه بأنه مشكك، لكنه مؤمن في الوقت نفسه، مؤمن بالإمكانيات البشرية. هذا الكتاب يعارض المشككين ذوي العقلية الدينية الذين يعتقدون أن الحياة من دون الوعد بالجنة لا تستحق العيش. ويصرّ شيرمر على أن "الجنة والجحيم في داخلنا، لا فوقنا ولا تحتنا".

 أعدّت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن موقع "مايكل شيرمر". المادة الأصلية منشورة على الرابط:
https://michaelshermer.com/heavens-on-earth/reviews/