يعتقد بعضهم أن كتابة الشعر يحتاج الى مهارة وتدريب فقط وتلك المهارة وهذا التدريب يمكن أن يحصل عليهما إذا حضر دروساً في كتابة الشعر أو يمكنه أن يتزود بهما أيضا عن طريق حضور ورش العمل الشعرية وحينها سيجد الخبرة اللازمة التي تمكنه من كتابة الشعر بأنواعه المختلفة،&
من هنا تولدتْ لديَّ بعض الأسئلة الملّحة التي تحتاج الى أجوبة مقنعة من قبل أصحاب هذا الرأي منها: - هل أن كلّ شخص قادر على كتابة الشعر مع عدم امتلاكه للموهبة الشعرية؟
&- وهل يكفي التدريب والممارسة وحدهما لولادة قصيدة؟
وحتى ولو اقتنع بعضهم بهذا، فأن كتابة قصيدة الحرب أمر مغاير تماماً، أمر لا يكفي أن تذهب من أجله الى مدرسة أو تحضر ورش عمل شعرية كي تكتسب تجربة كافية لكتابة تلك القصيدة التي تبقى مخيفة حتى في ولادتها&
دعني أثبتُ لك ذلك، مثلاً أنتَ تجلس الآن كعادتك على كرسيك الهزاز في شرفتك في صباح جميل هادئ، تدخن سيجارتك والى جانبك منضدة زجاجية عليها فنجان قهوة،&
فجأة تخطر في بالك فكرة كتابة قصيدة، فتقرر وبكل بساطة أن تكتب قصيدة حرب،&
تسحب نفساً عميقاً من سيجارتك وتأخذ رشفة من قهوتك وتغمض عينيك لتتخيل مشهد حرب قصير تظهر فيه فتاة صغيرة تدفن رأسها في حجرها لا تجرأ الى النظر الى من حولها، ترتعش خوفاً من صوت طائرات مقاتلة تحلّق في السماء، وكلّما علا دويّ أصوات المحركات تلك كاد أن يغشى عليها من الفزع،&
أو أنك تتخيل مجموعة من الأطفال يركضون حفاة بحثاً عن ملاذ أمن لا تطاله القنابل حين سماعهم صافرة الإنذار فيتعثرون بخطواتهم ويسقطون في حفر الطرقات التي صنعتها سراسف الدبابات.
الآن ماذا تعتقد هل من السهولة أن تجد عبارة موجزة ومحسوسة يمكنك أن تصفَّ بها مشهد الطفلة تلك–اليس الشعر إيجاز وإحساس– أو عبارة مقنعة تصوّر حالة الأطفال المذعورين أولئك -اليس الشعر اقناع ومصداقية؟!&
بالنسبة لي لا أعتقد إنكّ قادر على ذلك أبداً مالم تكن أنت تلك الطفلة التي كانت تختبأ مرتجفة من الغارة والتي كانت تراقب بكلّ حواسها الموت وهو يقترب منها لحظة بعد أخرى،&
أو أن تكون أنت واحد من أولئك الأطفال الذين كانوا يركضون هنا وهناك طلباً للنجاة، حينها فقط يمكنك أن تكتب قصيدة حرب حقيقية،
ولكن حتى في هذه اللحظة، أعني في لحظة كتابة قصيدة الحرب التي ستتذكر بها كيف أنكَ نجوتَ بأعجوبة من الشظايا والقذائف وكيف أن دويّ المدافع ومحركات الطائرات لم يذهب بسمعك لحسّن الحظ، في هذه اللحظة بالذات لحظة مواجهتك لذكرياتك الخطيرة سيتحول كلّ شيء من حولك الى ساحة حرب،&
فجأة يتحول صوت البلبل في أذنك الى صفارة انذار، وترى الحمامة التي تطير فوق رأسك وقد تحولتْ الى طائرة مراقبة عسكرية، ويصير مشهد الشجيرات المتشابكة التي تطلُّ عليه شرفتك أسلاكاً شائكة، ويتلاشى الهواء تقريباً من حولك، ويضيق بك المكان شيئاً فشيئا،
&تريد أن تصرخ ولكنك غير قادر على ذلك، فقد اختلط صوتك بتمتمات تلك الطفلة المكتومة المرتجفة وأصوات صراخ الأولاد المذعورين،&
وتغدو حتى سيجارتك أصبع ديناميت يوشك أن ينفجر بين أصابعك فتضعه في المرمدة بحذر شديد، وتختلط الألوان في فنجان قهوتك حتى تصبح رمادية ويتغير طعمها الى مرارة أشدّ وأقسى حدّة من السابق،&
تحاول أن تجد جاهداً ثغرة يمكنك أن تتسلل منها لتهرب من ذكرياتك التي تحولتْ الآن الى لحظات آنية حاضرة مخيفة مسموعة وملموسة ومحسوسة فلا تجد تلك الثغرة فيحتدم بداخلك صراع مرير،&
تريد أن تبكي ولاتجد في عيونك دموع مناسبة في حرقتها يمكنها أن تغسل روحك وتحررها من أدران تلك اللحظة الهائلة المزدحمة بالخوف&
تحاول وتحاول وتحاول ولا تجد لحظة السلام التي كنتَ تحسّها في هذا الصباح إلا حين تفرغ من ولادة قصيدتك بعد مخاض عسير.
نعم كتابة قصيدة حرب عملية خطرة بل خطرة جداً قد تفقدك شعورك بالسلام الداخلي مع نفسك، وقد تفقدك أيضاً لحظة المتعة التي كنتَ تحسّها عند رؤيتك الأشياء الصغيرة التي من حولك،
ربما سيقول بعض من سيقرأ هذا المقال إن هذه الكاتبة مدعية أو إن كلامها مبالغ فيه أو إنّها ببساطة مجنونة،&
أقول لهم جميعاً وأؤكد أنه لا يمكن لأحد أن يكتب قصيدة حرب يمكن لقارئ أن يسمع ويرى ويحسّ الحرب فيها مالم يمرّ كاتبها بتجربة الجلوس على حافة الموت ويحالفه الحظ وينجو منها شاعراً&