&
&
يُعتبر علم النفس الثقافي أحد فروع علم النفس العام، حيث يختصّ بدراسة الأثر الذي تُحدثه الثقافة على الإنسان باعتبارها عنصراً أساسياً في عملية بنائه. أي أن هذا العلم يبحث في جدوى قدرة الثقافة على تغيير سلوك الإنسان الاجتماعي والتنموي والمعرفي.
يُعرِّف "ريتشارد شويدر"، العالم الأنثروبولوجي الأميركي، هذا العلم بأنه علمٌ يدرس "الكيفية التي يتم من خلالها تنظيم التقاليد الثقافية وجميع تلك الممارسات الاجتماعية المتمحورة حول الذهن بغية تحويلها للنفس البشرية، ما يؤدي إلى وجود وحدة نفسية للجنس البشري، في مقابل عديد الاختلافات الإثنية في الذهن والذات والعاطفة". وبمعنى آخر فإنَّ آلية عمل هذا العلم تكمن في محاولة صهر وإذابة الكثير من العقليات والأفكار وسكبها ضمن قالب ذهني واحد.
يقف علم النفس الثقافي على أساسين ثابتين هما: الأول أنَّ الثقافة ملازمة للعقل ككل غير قابل للفصل، والثاني أنَّ النظرية المتأصّلة في ثقافة واحدة تكون محدودة القابلية على التطبيق عندما نطبّقها على ثقافة أخرى مختلفة. على سبيل المثال، إذا أخذنا "عقدة أوديب" نلحظ وجود الكثير من الآراء والدراسات التي تتحدَّث عن عدم عالمية أوديب، فعقدة الأب هذه ترتبط بالثقافة المسيحية المدنية وكل الثقافات المشابهة لها،
بينما في ثقافات أخرى تكون فيها الميول الوجدانية العاطفية موجهة نحو الخال والأخت لا الأب والأم.
يؤمن رواد علم النفس الثقافي بالنظرية التجريبية كأداة ضرورية في جمع البيانات.
في كتاب "علم النفس الثقافي" لبرتران تروادِك (ترجمة حكمت خوري وجوزف بورزق) نرى كيف أنَّ الثقافة ومن خلال تلازمها الحتمي مع العقل يشكلان "بلوكاً" أو كتلةً واحدةً هي الأساس الفعلي الذي قام عليه علم النفس الثقافي والذي ارتكز بأهم أعمدته على نظريات لعالم النفس الأميركي "جيروم برونير".
يطرح الكتاب سؤالاً: هل يكتسب النمو المعرفي طابعاً ثقافياً؟ ويبدأ بالإجابة عن السؤال بدايةً بضرورة تحليل التحديدات المتعلقة بمفهوم الثقافة على ضوء سياقات التطور البشري والتفاعلات القائمة بين هذه السياقات من جهة والفرد من جهة ثانية.
يقول المؤلف: "ليست الثقافة هي التي تصنع الفرد بل الأفراد هم الذين يصنعون ثقافتهم. فالثقافة ظاهرة رمزية تتيح لأعضاء مجتمع معين إمكانية تحديد هوية ظاهرات وأحداث وأوضاع وموضوعات باستخدام تصنيفات مقسّمة. علماً بأن هذه المقولات تكون غالباً مكتسبة بصورة ضمنية غير واعية، الأمر الذي قد يظهرها وكأنها طبيعية".
وكما نفهم من برونير فإن الفكر البشري يولد بالفعل، وهذا الفعل يؤدي إلى الثقافة التي بدورها تعطي شكلاً أساسياً للفكر الإنساني.
وعلى صعيد متصل نقرأ لجيروم نظريته الخاصة تجاه "النظرية المادية" والتي من خلالها يكون (العالمان الفيزيائي والنفساني يفسّران بمفهوم واحد هو مفهوم المادة، كما يحدّدها علم الفيزياء) ويرى أن إحدى نتائج بناء علم النفس العلمي على الأسس العقلانية والمنطقية تشكّل في مطلق الأحوال نزعة هادفة إلى تعقيم الحالات الفردية الذاتية. وفي ذات الخصوص يتساءل مؤلف الكتاب عن غرابة تفسير ظهور النظرية المادية و كأنها سبيلنا العقلاني الأوحد المؤدي إلى فهم الفكر أو العقل؟
ولمّا وقع "جيروم برونير" حائراً بين نارين بسبب رفضه الاختيار ما بين علم النفس (العلمي) وعلم النفس (الشعبي) استطاع برونير تحرير نفسه من خلال فن السرد. فالقصة برأيه هي أداة بناء الثقافة دون منازع ودون نسيان أن القصة هي شيء قابل للتحليل والوصف وكأنها إحدى الصيغ المنطقية والعلمية التي تستخدم في تنظيم المعرفة. ومن هنا جاءت الأهمية الكبرى التي علّقها جيروم على السرد القصصي فالسرد مثّل عامل تحرر بالنسبة إليه، والقصة مثّلت المخرج المطلوب لذلك الاختناق.
&
&باحث سوري في مجال علم النفس.