في حين ان منطقتنا مازالت بعيدة عن الامن والعدل وتحقيق مفهوم المواطنة وتزكيته على باقي الايديولوجيات، وفي حين انها مازالت عائمة على بحر من النفط والكسل المندمجين بلعنة الطائفية والاستبداد، نجد دول القارة العجوز تنعم بالرخاء والاستقرار والعدل. 

ليس الامر مجرد خطأ تاريخي وليس ايضاً هبة سماوية، بل الامر يتعلق بمدى العمل الجاد الذي يبذل في سبيل تطور الامم وتقدمها، فالشعوب الاوربية التي كانت تعاني حتى فترة قريبة هي الاخرى من الاستبداد، جاهدت نخبها منذ زمن ليس بالقريب، و نالت من الجسد الدكتاتوري بكل اصرار وتأني، الحالة التي تختلف وتجربتنا التي ترغب بالتخلص من الاستبداد ومورثاته دفعة واحدة، الامر الذي أدى الى مانعيشه من حروب وطائفية وتحطيم للوجود الانساني وامتهان لكرامته.

انها القارة العجوز التي عملت منذ قرون على بناء مجتمع يحكمه القانون،انه نتاج عمل تراكمي مانراه الآن من نعيم ينعمون به ويكون مقصداً لنا ايضاً, هرباً من بلداننا. 

ان شريعة حمورابي التي تعتبر اقدم تشريع مدون وكامل عرفته البشرية،متجازوتً ماسبقها من قوانين سومرية او مصرية قديمة، هي محاولة من الانسان لتنظيم مجتمعه على اسس عادلة،حيث حدد حمورابي بمواده 282، نصوصاً ناظمة لكل تفاصيل الحياة في مجتمعه, تكون كما الهيكل الحامل للبنيان المجتمعي، هذه الاسس التي تبنى عليه المجتمعات في رحلة بحثها عن العدل و التطور والرقي. واذا كان حمورابي هذا ابن منطقتنا فاننا لا نجد شبيه له في العصور التي تلت احكامه، بل نجد ان الامر بقي لقرون طويلة بلا كثافة فقية قانونية او قفزات نوعية كسابقة حمورابي، من تشريعات قانونية، تحمي المجتمع وتمنع تفككه او عودته ادراج الجاهلية، الى ان جاء المتنورون الاوربيون من فرنسيين والمان وانكليز وغيرهم، ليساهموا في سن القانون تلو القانون على الصعيد المحلي ومنه انطلاقا الى المحفل الدولي، فنجد الثورة الفرنسية حاملة لواء حقوق الانسان و مفهوم المواطنة، كما ان النخب الفكرية الاوربيية هي صاحبة السبق في وضع القوانين الناظمة للحروب والنزاعات، الى عدم الاتجار بالبشر، الى الغاء العبودية، الى منع تشغيل الاطفال الى تأسيس المؤسسات الدولية المعنية بالسلم والامن الدوليين وليس اخراً قوانين حقوق النشر، الى تأسيس منظمات المجتمع المدني العاملة في الحقل الانساني والخدماتي والمناهضة للحروب، الى قوانين حماية البيئة والمناخ …. الخ، الا اننا ينبغي ان نكون منصفين مااستطعنا الى ذلك سبيلا، من ذكر اشخاص ينتمون لمنطقتنا وكانت لهم اسهامات على صعيد التشريع الدولي. من امثال المفكر والسياسي اللبناني شارل مارك الذي ساهم في صياغة واعداد الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والعلامة عبد الرزاق السنهوري. 

 مازالت طامتنا كبرى وكوارثنا تكبح جماح تقدم اممنا ومازلنا نرزح تحت نير الاستبداد الفكري والسلطوي والديني. 

وحتى درب الديمقراطية الذي سال عليها دم شعبنا، ولم يصبح بعد في متناول ايدينا، والذي يتوجب عليه ان يهدينا لنحكم انفسنا بانفسنا. انتقدها افلاطون "اي الديمقراطية" قبل 2400 سنة وبرأي كان محقاً بنقده لها، اذ يقول ان الديمقراطية كاسلوب حكم، و تعيين اشخاص في الجهازين القضائي والتشريعي للدولة اعتماداً على مبدأ القرعة والتي قد تأتي بأفراد لايمتلكون الحكمة والمعرفة الكافية لاداء مهامهم، حيث ان الديمقراطية تعطي المواطنين،المساواة في الحقوق المدينة والتكافؤ في فرص تقلد المناصب السياسية الخاصة, وذلك في رحلة بحث افلاطون عن افضل انواع الحياة التي يمكن للانسان ان يعيشها وافضل انواع الحكومات التي يمكن للبشر ان يعيشوا تحت حكمها، فافلاطون يرى ان الدولة ومؤسساتها هي نتاج العقل البشري التي يمكن ان يساعد الانسان في تحقيق افضل النظم التي تكفل له السعادة الدنيوية.

ثمة سؤالٌ لاتهدي لاجابته، ماذا قدمنا نحن لانفسنا من قوانين وماهو انتاجنا القانوني الذي قدمناه للبشرية, ومن جهة اخرى ما مدى التزام انظمتنا نفسها بتلك القوانين التي هي ذاتها سنتها؟

ليس غريباً على مجتمعٍ تحكمه قوانين دينية او طائفية او قومية او حزبية، ان لا يحترم او يلتزم بالقوانين الناظمة له من الناحية الادارية او الاجتماعية وقبلهما السياسية و الجنائية، مادام القانون الاخر،اي الديني او الطائفي او حتى عشائري وقبليّ، يبيح له انتهاك المحرمات، و يجيز له ذلك في زمن الحروب اكثر.

ان القانون: هو مجموعة القواعد الناظمة للسلوك البشري. متضمنةً قيم اخلاقية ودينية، وكلما كان المجتمع منظماُ، كان ذلك دليلاً على قوة حضارته وعراقتها، فهل مجتمعاتنا الحالية ملتزمة بالمعاير الاخلاقية والدينية،قبل الخوض بالالتزام القانوني وتوفر الضمانات التي تكفل ترسيخ القوانين واحترامها.

كان حجة الاسلام الامام الغزالي رحمه الله، قد اقر بان العقل هو مصدر واساس شؤون الحكم في معرض دفاعه عن رأيه ان الفقه علم دنيوي وليس دينيا وذلك بقوله: فان قيل لم الحقت الفقه بعلم الدنيا؟ فاعلم ان الله اخرج ادم من التراب الى الدنيا وخلق الدنيا زاداً للمعاد ليتناول منها مايصلح للتزود فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة الى سلطان يسوسهم واحتاج السلطان الى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق اذا تنازعوا بحكم الشهوات, فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده الى طريق سياسية الخلق وضبطهم لينتظم باستفامتهم امورهم في الدنيا

قال الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي ان العقل مصدر الدولة والسياسة في القوانين،اي ان الحقوق الطبيعية والقوانين المدنية هي احكام يعود اصلها الى استنباط عقلي متطابقة مع مبادئ الفقه الاسلامي.

من رأي الشيخين الجليلين انطلق الى ماقاله فلاسفة المسلمين وعملوا على التوفيق بين المصدرين (الشرعي والعقلي) للحكم وللنوعين من الحكومات (دينية واخرى مدينة عقلانية )، من امثال ابن سينا والفارابي وابن رشد، محاولتهم هذه تنصب في خانة العمل على النهوض بالمجتمع والعمل على التوفيق بين ما هو ديني وماهو دنيوي وبالتالي كانت حضارة اسلامية مازلنا نتغتى بامجادها. 

ان الحضارة اليونانية القديمة والتي تعتبر من جهة امتداداً للتطور البشري، من حضارات سابقة لها من بابلية ومصرية قديمة وغيرها, فانها تعتبر كذلك برأي بعض المفكرين عصارة عقل الاثينيّن "سكان أثينا" الذين لم يمتلكوا كتاباً مقدساً على غرار الانجيل الاوربي او القرآن الاسلامي اللذين وضعا محددات للعقل البشري في تفسير ظاهرة الكون والحياة والمصير البشري.

 وكان مثار افتخارهم بما حقوقه كما وصفها بريكليس عام 430 قبل الميلاد, في خطبة

اننا لم نقلد نظام حكومتنا من جيراننا وانما نحن القدوة والمثل لهم وليس العكس، ويطلق على دستورنا صفة الديمقراطية لانه ليس في يد الاقلية وانما في ايدي الاغلبية وكما تؤمّن قوانينا العدالة المتساوية للكل في خلافاتهم الخاصة وتكرم المواهب في كل فروع المعرفة والانجازات على اساس جودة الاداء والتميز وليس لاي سبب اخر، وكما نتيح المجال الحر للكل في حياتنا العامة وكذلك نتبع نفس الروح في حياتنا اليومية بين شخص واخر، فنحن نؤثر الصداقة والصراحة في علاقاتنا الخاصة ونؤدي كل اعمالنا العامة في حدود القانون والنظام، كما لا نعتبر الفقر عارا بل العار الحقيقي هو عدم القيام بأي جهد لازالته. 

اتمنى ان لا كون قد ظلمت احداً في مقالي هذا.

 

عضو اللجنة القانونية في المركز التعليمي لحقوق الانسان. المانيا