أعلم أنَّ الدين والعقل ضابطان يضبطان عمل المرء، فيمنعانه اقتراف الشر، ويحجزانه عن إتيان الضر إلى نفسه أو إلى غيره، فإن هو لم يحَكِّمهما، أو أغفلهما، أو تفلت منهما كان عاقل الهيئة مجنون العمل، أو راشد السن سفيه الفعل، ثم هو جدير ألَّا يؤتمن على نفسه ولا على غيره.

وإني قد أبصرت أقوامًا من الناس يزعمون لأنفسهم تمام الدين، وتمام الحكمة، ويزعمون أن لهم فيهما قدم سبق على سائر الناس والأجناس، ثم إنهم لا يزالون كل ساعة يرتكبون قتلًا للنفس أو شروعًا في قتل النفس، ويرتكبون إيذاء للنفس أو شروعًا في إيذاء النفس، ويتلفون الأموال أو يشرعون في إتلافها، كل ذلك ليس عن عمد، ولا عن سوء نية (حاشاهم)، بل عن توكل صادق يزعمونه!

وقد كان من فرط العدل والإنصاف عند أولئك المتوكلين أنهم يبتدرون أنفسهم بهذا التوكل قبل أن يبادروا به الناس، وينزلونه بأقرب أهليهم قبل أن ينزلوه بالأجنبي البعيد، بل أول موضع يبتدؤون منه توكلهم هذا هو بيوتهم ومساكنهم، فتراهم وقد سوَّروها بالقمامات والأقذار، وخندقوها برواكد المياه والأكدار، فهى محصنة لا تغشاها نظافة، محمية فلا تخلص إليها طهارة! وهم في تلك المستعمرة الجرثومية مقيمين الشهر بعد الشهر، والعام بعد العام، مؤتلفين هم وجيرانهم من الهوام والسوام والأسقام! فإن خوطبوا في ذلك أو قيل لهم: كفوا أيديكم عن إيذاء أنفسكم، والتمسوا غير هذا سبيلًا لنفاياتكم، قالوا: وما نفعل؟! ربك يستر!

وهؤلاء كانوا إذا عادوا مريض جراحة لهم دخنوا عنده السجائر غير مبالين بأن يسعل فينفتح جرحه فينتكس! فإن خوطبوا في ذلك قالوا: خليها على الله!

فأما السائقون منهم فبلاء يطير على مثنى وثلاث ورُباع (كل بحسب ما يسوقه)، فأقل ما ينال الناس من بلائهم أنهم يتجاوزون السرعات على الطرقات، ثم لا يرضون بالسرعة حتى يتسابقون بركابهم على تلك الطرقات، ثم لا يرضون بالطيش والتسابق حتى يسيروا بها عكس الاتجاه! فإن خوطبوا في ذلك، فلعلك تسمعه يقول: جمِّد قلبك! ماحدش بياخد أكتر من نصيبه!

أما حِرَفِيُّوهم فليس يبالي أحدهم أن يدلي أسلاك الكهرباء فوق الجدار نافرة، متشابكة، متراكبة، فلا هو يوطِّئ لها مكانًا في جوف الحائط ويسد دونها، ولا هو يلم شعثها بشيء يحول بينها وبين لهو الطفل، أو يد العابث، فإن خوطب في ذلك فربما زعم أنها مرتفعة المكان، بعيدة المتناول، فلا خوف ولا ضرر!

ولولا أنىي أعلم أن عندك قارئي الكريم من الأمثلة ما هو أعجب وأشنع من هذا الذي ذكرته لزدتك وأكثرت لك منها، لكن ذلك سيُخرج القول من فن المقالة إلى رواية أقاصيص الحمقى وأخبار المغفلين، وليس لهذا هيأت هذه المقالة، ولا له أنشأتها.

إقرأ أيضاً: !هتMove onأسرع¡‎

فإن أنت ذهبت تلتمس معنى هذا التوكل القاتل، وتلك الحكمة المهلكة لم تجدها في دين ولا في دنيا. فإنه ليس من الدين توكل يفضي بصاحبه أن يتلف الأنفس والأموال، بل ما نعلمه من صحيح الدين: أنه لا ضرر ولا ضرار، واعقلها وتوكل، وأن تقبض على نصالها، وكف الأذى، وإماطة الأذى، والباب في ذلك أوسع من أن نتقصاه أو نحيط به، فأين منه توكلهم المدخول؟! فإن قلنا قد تعلموه من أهل الدنيا، فإنا قد وجدنا أهل الدنيا أمرهم على خلاف ذلك جدًّا وانضباطًا، وحسابًا وميزانًا، وتحوطًا واستيثاقًا.

إذًا فلتُسَمَّ "الجرائم" بأسمائها، هو "تقصير" وإن أرادوه توكلًا، وهو "تهاون" وإن دعوه جرأة، وهو "تغافل" وإن زعموه سترًا من الله، وهو قتل أو شروع في قتل إن أفضى إلى إزهاق نفس أو شروع في إزهاقها.

إقرأ أيضاً: يمام رمسيس

فلو كان هؤلاء ثلة من المجانين (وإن أفعالهم لكذلك) لقلت لمثلهم جُعلت المصحات، فليُحتجزوا حتى يشفوا، ولو كان هؤلاء قلة مخالفة، أو شرذمة متغافلة لقلت لمثلهم جُعلت العقوبات الزواجر، فشفاؤهم إنفاذ القانون فيهم فيستقيم الأمر، فأما إن كانت أمة بأكملها، أو شعب بأسره متخلقًا بهذه الخصال القتَّالة، يتلقاها الصغير عن الكبير، والمِثْلُ عن مثله، فهاهنا طِبُّهم التعليم، ودواؤهم الثقافة ولست أعنى بالتعليم علوم الفضاء والفيزياء، ولست أعنى بالثقافة شهود المعارض أو حضور الحفلات، بل أعنى تعليم الناس حقوق الناس بعضهم على بعض، وتثقيفهم بأدب التعايش فيما بينهم، وتمييز ما بين التوكل المحمود والتواكل المذموم، وبيان فضل الإتقان وإثم التقصير، وتكرار ذلك على القوم (صغيرهم وكبيرهم) في كل محفل، وعلى كل شاشة، وفوق كل منبر، ومن كل منصة، حتى يقر ذلك في النفوس، فتستقيم عليه الأفعال، فمن أَبَى بعد ذلك إلا المخالفات فلمثله جُعلت العقوبات.