يوم الجمعة 19 نيسان (أبريل)، قُتل الصحفي الروسي سيميون إرمين، مراسل صحيفة "إزفستيا" الروسية، أثناء تأدية عمله في مقاطعة زابورجيا، جراء استهدافه من قبل مسيرة أوكرانية، وذلك حسبما أعلنت وسائل إعلام روسية من بينها الصحيفة نفسها.

اللافت أنه مرور بعد أسبوع كامل على هذه الجريمة الموصوفة، وعلى مسافة أيام فقط من "اليوم العالمي لحرية الصحافة" في 3 أيار (مايو)، لا تزال المنظمات الحقوقية، والمنظمات التي تدافع عن حريات الصحافة، تلوذ بالصمت المطلق، وكأنّ شيئاً لم يحدث، على النقيض من مسارعتها الى إصدار بيانات الاستنكار والشجب والإدانة بغزارة في حالات أخرى، بينها عمليات الاعتقال وملاحقة بعض الصحفيين في عدد من الدول، الأمر الذي يقوض مصداقية هذه المنظمات، ويجعلها تبدو كأدوات يستخدمها الغرب للضغط على خصومه، وفي طليعتهم روسيا، ومن بعدها الصين، وأي دولة تشق عصا الطاعة للغرب صوناً لسيادتها الوطنية ومصالحها القومية.

فهل أصبحت هوية الصحفي، أو قوميته، أو مذهبه الديني أو السياسي، هي المعايير التي على أساسها تبني تلك المنظمات مواقفها من الدفاع عن حرية الصحافة والصحفيين؟

قتل الحقيقة
المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، اعتبرت مقتل الصحفي إيرمين "جريمة متعمدة تمت بدم بارد"، ورأت أنَّها "تمثل تأكيداً جديداً على الطبيعة الإرهابية القبيحة لنظام (الرئيس الأوكراني فلوديمير) زيلينسكي". وكشفت زاخاروفا أن إيرمين كان قد نشر قبل يومين فقط من استهدافه تقريراً ضمَّنه أدلة موثقة "تشير إلى أنَّ القوات الأوكرانية أعلنت كل المراسلين الروس على خط الجبهة بمثابة أهداف أوليَّة للقتل". ما كشفه إيرمين يعدّ تحولاً خطيراً، ويتنافى مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وقوانين الحرب التي تدعي كييف احترامها، كما يتناقض بشكل تام مع السردية التي تروج لها وسائل الإعلام الغربية حول مظلومية أوكرانيا، وطهرانية نظامها وشفافيته.

صمت المنظمات الدولية على استهداف الصحفي الروسي إيرمين، استفز حتى الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام الغربية، ودفع بأحدهم إلى توجيه سؤال مباشر حول ذلك إلى فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فردَّ الأخير بالتأكيد على مبادئ وقيم الأمم المتحدة: "نحن ضد قتل أي صحفي، ونعتقد أنه ينبغي التحقيق في مثل هذه الحوادث بشكل كامل". وكان هذا هو الموقف اليتيم لكلّ المنظمات الدولية والحقوقية والإنسانية.

على أيّ حال، ليست هي المرة الأولى التي تستهدف فيها القوات الأوكرانية المدعومة من الغرب، مالياً وعسكرياً وفكرياً وثقافياً، صحفيين من روسيا، بما يعكس سعي كييف، ومن خلفها رعاتها، إلى تحريف وطمس الحقائق، بغية تعويم سردية وحيدة لا ثاني لها، وهي السردية الغربية. بيد أنَّ القوات الأوكرانية ما كان لها أن تمعن في استهداف الصحفيين لولا صمت المنظمات الدولية التي تنبري في العادة للدفاع عن حريات الصحافة. في 22 حزيران (يونيو) 2023، قتل مراسل وكالة "نوفوستي" الروسية، وأصيب ثلاثة صحفيين روس في زابورجيا أيضاً، نتيجة قصف مدفعي أوكراني. تلاها قيام قوات أوكرانية بشن هجوم على مجموعة من الصحفيين الروس في مقر وكالة "نوفوستي" ومركز صحيفة "إيزفستيا" للإعلام، بينما كانوا يعدّون تقريراً حول قصف أوكراني لمناطق سكنية في زابورجيا بقذائف عنقودية.

نقطة التحول: القرم
تعد منظمة "مراسلون بلا حدود" من أبرز المنظمات التي تدافع عن حريات الصحافة، وتصدر تقارير دورية حول الانتهاكات التي يتعرضون لها، ولا سيما في مناطق النزاع. في تقريرها السنوي عن عام 2023، انصبَّ تركيزها على الصين وبيلاروسيا، وعلى اعتقال الصحفيين في أميركا اللاتينية وإيران وتركيا وبورما، دون إيلاء اهتمام لما يحصل في الميدان الأوكراني.

ثم عادت وأصدرت تقريراً خاصاً عن الحرب في أوكرانيا في شباط (فبراير) الماضي، تحدثت فيه حصراً بلسان أوكراني بلبوس غربي. يبدأ التقرير بالحديث عن المساعدات التي قدمتها المنظمة "لأكثر من 1500 صحفي أوكراني وأجنبي، وما يزيد عن 150 وسيلة إعلامية" بهدف المساعدة على مواجهة روسيا، حيث دعمتهم بـ"معدات وقاية، ودعم نفسي، ومالي". أي أنَّ "مراسلون بلا حدود" تقر أنها تهتم حصراً بالجانب الأوكراني فقط، وأن الجانب الروسي لا يعنيها، وكأنه طرف يجب تغييبه تماماً عن المشهد. يشكل هذا التقرير أبرز وثيقة للوقوف على حقيقة المعايير المهنية لحرية الصحافة وفق منظور الغرب، وسعيه لشيطنة روسيا بكل أدوات التأثير الثقافي والإعلامي، أو ما يصطلح على تسميته بأدوات "الغزو الناعم".

وللتأكيد على أنَّ المنظمات الحقوقية والدولية تشكل أدوات للسياسات الأميركية والغربية، تكفي مقارنة وضعية الصحفيين الروس في تقاريرها ومواقفها قبل وبعد استقلال القرم. ذلك أن إعلان استقلال جمهورية القرم في آذار (مارس) 2014، بموجب استفتاء شعبي، كان بمثابة الحدّ الفاصل، أو نقطة التحول في وضعية روسيا بالنسبة إلى الغرب. فمذاك، انطلقت عملية شيطنة روسيا بكافة السبل والأدوات المتاحة، لكنَّ بعض المنظمات الدولية بقيت في الأشهر التالية تراعي المعايير المهنية في مواقفها من استهداف الصحفيين، إلى أن شملها الضغط الغربي بالكامل، وحدَّ من قدرتها على القيام بأيّ مناورة.

على سبيل المثال، أدانت منظمة اليونيسكو، على لسان مديرتها العامة، إيرينا بوكوفا، مقتل إثنين من الصحفيين الروس في حزيران (يونيو) 2014، بينما كانا يغطيان الهجوم الأوكراني على لوغانسك.

أميركا: انتهاكات أوكرانية لحقوق الإنسان
في أيار (مايو) 2023، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية تقريراً ضد موسكو، رداً على محاكمة مراسلها هناك بعد ضلوعه بالتجسس، قالت فيه بالحرف "تسارعت حملة الدولة الروسية ضد الإعلام الحر بعد عام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم". أي أنَّ روسيا كانت قبل عام 2014 واحة من الديموقراطية، أما بعد استقلال جمهورية القرم، الذي وجه ضربة كبرى لسعي الغرب إلى حصار روسيا وإضعافها، صارت الأخيرة في نظر الغرب، وبسرعة قياسية، واحدة من الدول ذات السجل الأسود في الحريات وفق المقاييس الغربية الضيقة طبعاً.

ومذَّاك، بدأت التقارير تتهاطل لمؤسسات حقوقية تدور في الفلك الغربي، حول اتهام موسكو باستهداف الصحفيين وقتلهم، واعتقال الصحفيين داخل روسيا بتهم ملفقة، خاصة في السنتين الأخيرتين. فيما أن النقاش كله يدور حول 20 صحفياً، سجنوا لانتهاكهم القوانين التي جرى تعديلها في السنوات الأخيرة لحماية الأمن القومي الروسي.

تهجم الغرب على روسيا بذريعة التوسع في تفسير مفهوم الأمن القومي يُعد تضليلاً، لأنّ أميركا والاتحاد الأوروبي توسعا أكثر من روسيا بأشواط في تفسير المفهوم نفسه، خاصة عقب اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وأهلها، وصولاً إلى ملاحقة حسابات على منصات التواصل الاجتماعي، ومنعها من ذكر كلمة فلسطين.

علاوة على ذلك، فإنَّ التقارير التي تتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها الحكومة الأوكرانية، والصادرة عن جهات غربية، قلما تجد مكاناً لها في وسائل الإعلام الغربية. نذكر منها التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأميركية حول أوضاع حقوق الإنسان في دول العالم، والذي نشر منذ أيام قليلة، ولفت الانتباه إلى "انتهاكات أوكرانية من قبل شخصيات رسمية"، وتحدث عن "معلومات موثقة حول حالات الاختفاء القسري والتعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية"، لكنه أغفل ذكر حادثة مقتل الصحفي الأميركي غونزالو ليرا تحت التعذيب في سجن أوكراني، ما دفع بزاخاروفا الى التعليق واتهام واشنطن بممارسة التمييز حتى في حق مواطنيها.