"إيلاف" من القاهرة: ضمن سلسلة النوستالجيا بالأبيض والأسود التي تُسلِّط من خلالها الضوء على حياة وقصص مشاهير الفن والغناء، تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة حياة الفنان شكري سرحان الذي أثرى الحياة السينمائية بعشرات الأفلام المتميزة. حيث تسرد ذكرياته منذ نعومة أظافره مروراً بأهم أفلامه في السينما المصرية التي نالت إشادات جماهيرية ونقدية، وذلك عبر مقطفات مأخوذة من تصريحاته في لقاءات نشرها الراحل وتناولت سيرته الذاتية خلال محطات تكريمه داخل مصر التي نال فيها عشرات الجوائز الفنية.

إنطلاقة باللهجة الصعيدية
كانت الصور العديدة التي نشرت في دار الهلال، والمقال الذي نُشِرَ في مجلة المصور سبباً في قيام المخرج حسين فوزي بالإتصال به وأخضعه لاختبار له بالكاميرات في استوديو نحاس. ثم أسند له دور البطولة بفيلم "لهاليبو" أمام نعيمة عاكف، وبعد نجاح الفيلم المدوي، أُسنِدَ له الدور الأول بفيلمٍ آخر اسمه "بابا عريس". وكان فيلم "لهاليبو" بالألوان أما المصورين فكانوا فرنسيين وكان شكري سرحان يقوم بأدوارٍ خفيفة الظل في أفلامٍ استعراضية مرحة وهو الذي اعتاد منذ كان طالباً في المعهد وقبله في المدرسة على أداء الأدوار الكلاسيكية، وباللغةِ العربية الفصحى ومن خلال أدوار تراجيدية مأساوية عالمية. ولكنها كانت توجيهات المخرج حسين فوزي الذي وضع قدميه على أول الطريق السينمائي الذي نجح فيه بعد ذلك نجاحاً كبيراً وأمام مجموعة من عمالقة التمثيل المسرح على رأسهم الفنانة الموهوبة "اللهلوبة" نعيمة عاكف. ثم جاء المخرج يوسف شاهين الذي قدمه بفيلم "إبن النيل".
ولأن الدور كان باللهجة الصعيدية التي لابد أن يتكلم بها البطل فقد استعان المخرج بصعيدي من أساتذة المعهد يتحدث هذه اللهجة بطلاقة وكانت المجموعة التي تجلس أمامه في فصلٍ واحد مكونة من السيدة فاتن حمامة والفنان يحيى شاهين، وفردوس محمد التي أصبحت أشهر أم في السينما بعد ذلك، وكانوا يجلسون مع مدرس اللهجة الصعدية لساعاتٍ طويلة.
واتقن "سرحان" الحديث بهذه اللهجة الصعيدية ونجح الفيلم نجاحاً منقطع النظير. وهو يعتبر من نقاط التحول الحقيقية أو من النقط المضيئة في حياة شكري سرحان السينمائية. فقد تجمعت له عناصر النجاح من إخراج يوسف شاهين وانتاج الرائدة ماري كويني، ومجموعة من عمالقة الممثلين.


في درب المهابيل
واشترك بعد ذلك مع الأستاذ حسين فوزي في سلسلة من الأفلام المرحة الإستعراضية التي كانت بطلتها الفنانة نعيمة عاكف، إلى أن التقى بالأستاذ نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار، والمخرج توفيق صالح بفيلم واقعي تجري أٍحداثه في حارة مصرية.
والفيلم اسمه "درب المهابيل" وكان يقوم فيه بدور صبي عجلاتي. ويحكي "سرحان" قصته مع هذا الفيلم، فيقول "كانت قصة عجيبة. فبعد أن وقعت العقد استلمت 50 جنيها كدفعة أولى. ذهبت مع المخرج توفيق صالح ومدير التصوير الأستاذ عبد العزيز فهمي، ومهندس الديكور الفنان عبد المنعم شكري. وترافقنا إلى استوديو الأهرام لنشاهد ديكور الحارة التي سوف تقع فيها أحداث الفيلم. ففوجِئت بديكور للحارة في غاية الإتقان وفي قمة الواقعية، مما أصابني بحالة من الخوف والقلق. واشفقت على نفسي من عدم القدرة على أداء دور الصبي العجلاتي كجزء من أهل الحارة المصرية الخالصة يضاف إلى هذا مجموعة العمالقة التي تمثل أمامي أو بالتحديد الدقيق أمثل انا أمامهم، وهم شفيق نور الدين وحسن البارودي وتوفيق الدقن وعبد الغني قمر وعبد العزيز احمد واحمد الجزيري".
ويستطرد "عدت إلى منزلي وقد تملكني خوف شديد من عدم القدرة على إقناع المتفرجين من خلال هذا الدور بأنني فعلاً من أبناء هذه الحارة، وأن أكون في قمة الصدق وعمق الواقعية مع هذه المجموعة العظيمة من أبناء حارة درب المهابيل، وقررت أن أضع حداً لهذا الخوف وهذا القلق. فذهبت إلى مقر الشركة المنتجة وأخبرت الأساتذة الكبار المخرج توفيق صالح ونجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار، بأنني أخشى أن أخذلهم في اختيارهم لي لأداء هذا الدور، والتزم الجميع الصمت وأنا معهم. ثم بدأ كل واحد منهم يحاول اقناعي بالعدول عن هذا القرار، حتى أحاطوا بي ووجدت نفسي وقد رضخت لإلحاحهم".
يواصل سرد تفاصيل تحضيرات هذا الفيلم قائلا: " بدأت أطلب منهم نوع الملابس التي سوف أرتديها في الفيلم، وأدخلنا عليها التعديلات اللازمة من تمزق وترقيع وتوسيخ بالشحم الأسود، وقمت بقص شعري على طريقة أولاد العجلاتية، واستعنت بالله لكي يوفقني".


رنة الخلخال
بعد أن انتهى من فيلم "درب المهابيل" دخل بفيلم "رنة الخلخال". فانتهى من دور صبي العجلاتي، وبدأ بدور صبي الفرن، وهكذا أحاط به القلق والخوف مجدداً. وسأل نفسه: هل يستطع فعلاً، أن يؤدي هذا الدور بالشكل الذي يقتنع به الناس؟ فلم يكن أمامه إلا أن يتردد من وقتٍ لآخر على أحد الأفران البلدية القربية من السيدة زينب، وكان في هذه الفترة قد أصبح نجما مشهوراً فكان من الضروري أن يبدأ زيارته بعد منتصف الليل حتى لا يلتف الناس حوله في الفرن، فلن يسطتع أن يمارس حياة الفرن بالحرية المطلوبة، فطلب من المخرج محمود ذو الفقار، أن يتفق مع ادارة الانتاج على أن يزوده بكاميرا حتى يستطع أن يقوم بتصوير الفرن بعد منتصف الليل وأخذ في تصوير الرجل وهو يلبس الخيشة يغطي بها الجزء الأسفل من جسده بينما النصف العلوي عارياً وهو غارق في عرقه وانهمك مع الفرن والكاميرا في يده والفران سعيد جدا حوالي ربع ساعة، وكان الرجل في أثناء تصويره لاهيا تماماً عن الخبز في داخل الفرن حتي فوجِئ باحتراقه، وبدأت بوادر الأزمة بين صاحب الفرن والفران، وبدات الاصوات تعلو، ولم يكن أمامه إلا أن يدفع ثمن الخبز المحترق.
وخرج من تجربة الفرن في "رنة الخلخال" ليدخل في تجربة جديدة مع الاستاذ صلاح ابو سيف وكان دوره في هذه المرة متعهد تقديم الضحايا من النساء بفيلم "ريا وسكينة" حيث كان يعمل بالنهار صبي جزار في المذبح بالإسكندرية، وفي الليل يلبس بدلة ، ويبدو وكأنه "زير نساء" ولكنه أداة لسفك الدماء يعمل لحساب ريا وسكينة، ولما كان دوره باللهجة الإسكندرانية، أسرع بالسفر إلى الإسكندرية قبل التصوير بعدة أيام وأخذ يتردد على المذبح واختلط بصبيان الجزارين والتقط لهجتهم وتدرب عليها حتى تمكن من اتقانها تماماً.


موعد مع القمة 
كانت هذه واحدة من مراحل شكري سرحان عندما كان صبياً في السينما، صبي عجلاتي، صبي فرن، صبي جزار، لكنها مرحلة انتهت بسرعة ليبدأ رحلة جديدة طويلة مختلفة تماماً عن سابقتها. وكان منعطف الطريق أو حجر الزاوية عندما التقى بمخرج الرومانسية عز الدين ذو الفقار، وأسند له دوراً رومانسياً حالماً بفيلم "موعد مع الحياة" أمام فاتن حمامة التي التقى معها للمرةِ الثانية بفيلم "طريق الأمل".
ويقول "سرحان" عن هذه المرحلة: "كنت أشعر في هذه المرحلة أنني أعيش أحلام وردية جميلة لا تجدها إلا في القصص الرقيقة التي تخاطب الوجدان وتلونها عذرية الشباب".


شباب إمرأة
وكانت القفزة العظيمة له عندما أسند إليه الأستاذ صلاح أبو سيف دور البطولة أو الفتى الأول بفيلم "شباب إمراة" فكان الدور فرصةً ذهبية أجاد فيه وأدى أداءً متميزاً أعجب الناس والنقاد والعاملين في الحقل السينمائي.
نجح "سرحان" بفيلم "شباب إمراة"، وصاحب نجاحه في هذا الفيلم فرصةً أخرى على يد الدولة، عندما قررت في نفس العام الذي عُرِضَ فيه الفيلم منح جوائز للمتفوقين في صناعة السينما فكان لفيلم "شباب إمراة" النصيب الأوفر في جوائز السينما، فنال جائزة الإنتاج وجائزة الإخراج وجائزة التمثيل. وكانت كلها الأولى. مما جعله بعد ذلك يدقق في اختيار الأفلام ليحافظ على المستوى الكبير الذي وصل إليه.

رد قلبي
وعاد مجدداً إلى الأدوار الرومانسية على يدي عز الدين ذو الفقار في واحدٍ من العلامات المميزة في السينما المصرية وهو فيلم "رد قلبي" الذي كتب قصته يوسف السباعي ومزج فيه الرومانسية من خلال قصة حب كبيرة مع واقعية صريحة ومن خلاله عرض لفترة هامة وحساسة من تاريخ مصر الحديثة سياسياً ووطنياً واجتماعياً. وكان عرض هذا الفيلم يستمر لمدة ثلاث ساعات. علماً أنه أول فيلم بالألوان الطبيعية يحمل توقيع المصور السينمائي الكبير وحيد فريد الذي أنجزه بإتقانٍ كبير وبراعة شديدة وإبداع عظيم شهد به الجميع. مع الإشارة إلى أن "فيلم "باباعريس" كان هو أول فيلم بالألوان الطبيعية، لكن المصورين فيه كانوا فرنسين.