إيلاف من جدة: إنفتح الشباب السعودي أكثر فأكثر على مهنة الطاهي، وتقبل المجتمع فكرة "الشيف" الذكر، خصوصًا أن لهذه المهنة مكانةً مرموقة عالميًا، ومردودًا ماديًا عاليًا. فقد تغيّرت النظرة الدونية التي كانت تعتلي محيا كل من يُذكر أمامه أن الشاب الفلاني طاهٍ في أحد الفنادق أو المطاعم، حتى لو بلغ من الرقي والعالمية ما بلغ، ليحل محلها قبول مجتمعي سعودي، حتى يراهن البعض على أن يكون هذا المجال مجديًا اقتصاديًا ومعنويًا. فأصبحت مهنة الشيف سببًا في الشهرة، وفي خوض مجال المشروعات الريادية في السعودية. 

وعلى الرغم من أن عدد الطهاة المحترفين المعتمدين على مهنتهم هذه دون سواها لا يشكل أكثر من 5 في المئة، فإن مواقع التواصل الإجتماعي أدت دورًا مهمًا في تقبل المجتمعات العربية بشكلٍ عام، والخليجية بشكلٍ خاص، هذه المهنة كهواية أولًا ثم كمهنة ثانيًا. "إيلاف" تنقل إليكم تجربة مهندس عاف الهندسة، ووقف بمئزره يحضر الحلويات.

محمد سعيد يحقق الحلم
كان المطبخ محطته الأساس منذ الطفولة، يدخل إليه ويعبث بمكونات الطعام ثم يردد بالهناء والشفاء. كانت والدته توبخه، وهي ذاتها كانت تشجعه على دخول المطبخ كي يعتمد على نفسه إذا درس خارج المدينة.

هكذا بدأت قصة المهندس محمد سعيد، خريج قسم الهندسة من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، والذي أكمل دراسته الجامعية في الولايات المتحدة الأميركية، ليعود ويتوظف كأي شاب في شركة فيعمل عملًا يتناسب وتعليمه الأكاديمي. إلا أن محمد قرر ترك الوظيفة التي كانت تدر عليه راتبًا شهريًا جيدًا جدًا، وأجل فكرة الزواج، ليحقق حلمًا راوده منذ الصغر، فقرر أن يبدأ مشروعه الصغير "مبنى 14"، المبنى الذي كان يدرس فيه الهندسة، ليؤسس صفحة على "إنستغرام" لعرض إبداعاته الفنية في طهي أشهى "كاب كيك" وحلويات، وتموين الأفراح والمناسبات. بل وبدأ في اختراع بعض الحشوات بنكهاتٍ حمل براءة اختراعها. 

عن هذا، تحدث "سعيد" لـ "إيلاف" قائلًا: "الحلويات كانت إلهامًا. فقبل سنة وعشرة أشهر، وفي أثناء رجوعي من عملي في شهر رمضان المبارك، طرأت لي وصفة كعكة من دون سابق تخطيط أو علم أو قراءة في مجال الحلويات، وصلت إلى بيتنا فدخلت المطبخ ودمجت المكونات ثم وضعتها في الفرن وانتظرت، وكانت المفاجأة. كعكة جميلة وغريبة ولذيذة. في ذلك اليوم، تركت الطبخ واتجهت إلى الحلويات. وفي فبراير ٢٠١٦ تركت وظيفتي في الهندسة الكهربائية وسكنت في المطبخ".

هكذا بدأ
الجدير بالذكر أنه لم يكن شغف محمد في الطهي مرفوضًا من عائلته، فلو اختار دراسة الطبخ على الهندسة لوجد التشجيع حينها، لكن ثقافة المجتمع ما كانت لتتقبل الأمر. وهو حين يتحدث عن بداية مشروعه يقول: "خلاط، صينية، فرن، حساب تواصل اجتماعي والقليل من الدقيق... هكذا بدأ المشروع وانطلق تحت اسم المبنى 14، وهو مبنى قسم الهندسة الكهربائية في الجامعة قديمًا، ولا أعلم إذا كنت أريد تغيير الإسم قبل افتتاح المحل فأسميه (زكية)، أي الرائحة الطيبة والطعم الطيب، وهو اسم أمي أيضًا". 

وعما إذا كان قد استعان ببعض الكتب أو الوصفات، يضيف: "حفظ الله YouTube، لكن نصيحتي في الحلويات عمومًا هي ضرورة تطبيق الوصفة بالحرف، لأن الخبز والكعك كيمياء".

عوبات وبسطة ماركت
وكان من أهم الصعوبات التي واجهت هذا المهندس في مشروعه الجديد إنشاء السجل التجاري والتراخيص التي لا تنتهي إلا بإقفال المشروع لمن لا يمتلك النفس الطويل، هذه الحقيقة لكن جانبها المشرق أجمل. فهو يتبع سياسة مختلفة في إدارة مشروعه، الذي بدأه من خلال "بسطة ماركت"، مشروع أقامته الغرفة التجارية في جدة لتشجيع أصحاب المشاريع المتوسطة والصغيرة على إظهار ابداعاتهم التجارية. تعتمد خطته على المعادلة الآتية: بيع رخيص + بيع كثير= انتشار سريع + ربح كثير. فهامش الربح متواضع إلى حدٍ ما. ومع ذلك، تنفذ منتوجاته كلها قبل انتهاء اليوم، وتبقى الطلبات الكبيرة من خلال صفحته في "إنستغرام".

الحشوة السرية بنكهة الورد
على الرغم من بساطة الكعكات المعروضة لهذا المهندس، فإنه يؤكد أن الطعم والسعر عاملان لا يمكن التغافل عنهما في تحقيق الربح، ويقول: "يتميز الكيك الذي أقدمه ببساطة مظهره، وحلاوة طعمه، فما أن تتناول القطعة الأولى إلا وتجذبك الثانية والثالثة، ولعل هذا سر من أسرار المهنة. إضافةً إلى أن السعر المقبول يجعله في متناول الجميع".
أما الكريمة الوردية أو الحشوة السرية، فترنم بها قائلًا: "هي خلطتي الخاصة بنكهة الورد، وأنا أراهن عليها، وهي سر لا يمكن أن أعطيه لأحد، ولا اعتقد أن هناك من يمتلك مثل هذا النوع من الحشوات بالنكهة الخاصة". 

فريق عمل
ويتطلع هذا الشف الطموح إلى افتتاح متجره في أقرب فرصة ممكنة، حيث أنه لا يمتلك حاليًا أي مساعدين غير والدته وأخواته، ويشير إلى أنه "قبل أسبوع، مكثت أكثر من ١٢ ساعة في إعداد أكثر من ألف ومئة قطعة من الحلويات الصغيرة وحدي، وكان هذا متعبًا حقًا، تركت الطلبية في البراد وذهبت إلى عمل آخرٍ، وقام إخوتي بمهمة التغليف. وعندما ضاق الوقت تجمع كل من في البيت، حتى أبي السبعيني، لإنهاء التغليف، ثم قام أخي الأصغر المهندس أحمد بايصال الطلبية إلى قاعة الأفراح. كان يومًا عصيبًا. محل كبير للتوزيع، وفروع صغيرة جدًا منتشرة في كل زاوية (قطعة كيك وكوب من القهوة) ربما تكون فيها سعادتك. على أي حال، عندما تحصل على ثلاجة هدية من الوالد، أتوقع أنها بداية جيدة للنجاح". 

الجمعية السعودية للطهاة
قال ياسر جاد، مدير الأغذية والمشروبات في الخطوط السعودية ورئيس الجمعية السعودية للطهاة، لـ"إيلاف": "جميع الطهاة المتواجدين في سوق العمل ممن يحق لهم الالتحاق بالجمعية، سواءً من السعوديين أو المقيمين، وتعتبر الجمعية احدى الجمعيات المندرجة تحت لواء منظمة الاتحاد العالمي للطهاة، ودورها دعم الجمعيات المؤسسة في أي دولة، والهدف تواصل الطهاة لتنمية حرفة الطهي، خصوصًا الطهاة المحترفين. ويقدم هذا الاتحاد الدعم لكل الجمعيات المندرجة تحت مظلته، ويقيم المسابقات الدولية في 220 دولة، ويؤمن التحكيم المحايد في المسابقات، ومنها النحت على الثلج، والنحت على الشوكولاته، والمقبلات، والأطباق الرئيسية، والحلويات وتزينها، إضافة إلى أن الجمعيات تستفيد من الدورات التدريبية التي يقدمها الإتحاد العالمي، والإمتيازات التي يقدمها. وتتبع الجمعية السعودية أفريقيا ودول الشرق الأوسط". 

وأشار إلى أن السعودية لم تصل حتى الآن إلى المسابقات الدولية، فعدد الطهاة الملتزم هذه المهنة ليس كافيًا، فمعظمهم مشغول بعملٍ آخر، أو مقيم وينتهي عقده في أي لحظة. 
وبحسب ما صرّح "جاد"، فإن هذه الجمعية قد تأسست في العام 2009، ولها مشاركات سنوية من خلال معرض الصناعات الغذائية والفندقة والسياحة في جدة، ومعرض فديكس الدولي، إضافةً إلى مسابقة هوريكل الدولية في الرياض، مؤكدًا على أن المشاركة في هذه المعارض مفيدة جدًا للطهاة السعوديين لاكتساب خبرات أوسع.

5% فقط محترفون 
أما عن عدد الطهاة في الجمعية، فقال جاد:" العدد غير محدد، وهو بين زيادة ونقصان، لعدة أسباب منها مسألة تجديد العضوية وانسحاب البعض وانتقال البعض إلى دول أخرى، وبدأت الجمعية بنحو 16 طاهيًا، ووصل عددنا في عام 2013 إلى 400 طاهٍ، وكانت آخر إحصائية في 2015، فوصل العدد إلى 500 طاهٍ، يشكل السعوديون منهم 4 إلى 5 في المئة فقط، مسجلون في الجمعية". 

ويشرح أن هذه النسبة متواضعة في ما يخص الانتساب وامتهان الطهي كاحتراف وعمل معترف به. وقال: "هناك نوعان من الشباب المتحمس لمهنة الطاهي، الأغلبية تدخل لتتعلم في الكليات الرسمية والمختصة بالفندقية والسياحة، ومعظم منتسبيها يشغلون الوظائف الادارية، وللأسف لا يوجد في السعودية مرجع يخرج لنا طهاة محترفين، فالكليات والجامعات تعطي الخطوط الأولية، ومن يريد أن يمتهن مهنة شيف عليه البحث عن دورات خارجية لتعلم الحرفية حتى يجد من بعد ذلك من يقدم له الدعم والتوظيف في الفنادق المعروفة، أو المطاعم خمس نجوم، خصوصًا أنه يعتَبَر حديث الخبرة، ومع ذلك يصر هذا البعض على تخطي الصعاب؛ وثمة بعض الآخر من ذوي التخصصات المختلفة، يتجه إلى مجال الطهي بهدف الاستثمار وفتح المشروعات المختلفة، لأن المكسب يومي وسريع، وتظهر التكلفة للعائد الربحي الشهري أو السنوي بشكل سريع، وهذا عامل مشجع للشباب". 

دور التواصل الاجتماعي 
وعما حققته مواقع التواصل الاجتماعي لهواة الطهي، قال جاد: "ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في إنجاح عدد من المشروعات، لكن على نطاق ضيق، فينشهر الشخص على "إنستغرام" أو "فيسبوك" حتى لو لم يكن متمكنًا، والطهي كهواية مختلف جدًا عنه كاحتراف، ومن يريد أن يصبح "شيفاً" عليه أن يصعد السلم الوظيفي". 

وأوضح أن هذه المهنة من المهن التي تحقق عائدًا ماديًا أكثر من جيد في حال تلقى الطاهي تعليمه في معاهد محترفة، واحترف المهنة واعتلى سلمها الوظيفي بجميع درجاته، فإنه في هذه الحالة يحقق راتبًا أعلى من رواتب حملة الشهادات الجامعية، وفي حال استطاع أن يتميز في الفنادق المرموقة، يمكن أن يزيد راتبه على راتب الطبيب. 

نظرة مجتمعية مختلفة 
وعن نظرة المجتمع إلى الطاهي، قال جاد:" بالفعل تغيّرت نظرة المجتمع السعودي إلى هذه المهنة بشكلٍ كبير، وباتت طموحًا عند البعض من دون أن تعترض العائلة على ذلك". ويشرح أن هذا التبدّل الإجتماعي يعود إلى أسباب عدة، منها أن كثيرًا من الطهاة السعوديين قد أبرزوا هذه المهنة بشكلٍ جميل، وذلك من خلال مشاركاتهم في المسابقات الدولية والعربية، ومن خلال البرامج التلفزيونية، وما حققته من شهرة. فقنوات الطهي المختصة اعتنت بهذه المهنة وأظهرتها بشكلٍ جميل، وبيّنت أن لهذه المهنة مكانةً إجتماعية ومردودًا ماديًا. 

تصوير: هشام مسعود