خلال الحملة الانتخابية الرئاسية في اواخر عام 2014، كان محمد المنصف المرزوقي يرغب في ان يوحي للتونسيين في كل الخطب التي يلقيها، وفي كل التظاهرات التي يحضرها، بأنه لا أحد غيره قادرًا على مساعدة بلادهم على مواجهة الأزمات الخطيرة التي تتخبّط فيها منذ انهيار نظام زين العابدين بن علي. 

وبالتالي فإنّ خروجه من قصر قرطاج في مثل ذلك الوقت لا يعني شيئا آخر غير تسليم البلاد إلى المجهول، وإلى ما لا تحمد عقباه!. 

لا يزال المرزوقي يردد هذا الكلام وهو يطوف في انحاء البلاد للدعاية للحزب الجديد الذي اطلقه، أعني بذلك حزب "حراك تونس الارادة" الذي كان في الاصل "حزب المؤتمر من اجل الجمهورية". ولعله يعتقد ان مجرد تغيير اسم حزبه يمكن ان يساعده على اكتساب عذرية سياسية جديدة، وشعبية ستظل في نظري حلما بعيد المنال!

عارفاً بأنه قال ذات يوم بأن السنوات التي عاشتها تونس في ظل نظامي الرئيسين الحبيب بورقيبة وبن علي، كانت "خرابا في خراب"، لم يحضر المرزوقي موكب الاحتفال بالذكرى الستين للاستقلال الذي انتظم في قصر قرطاج يوم الاحد 20 مارس (آذار) الحالي، بحضور كبار الشخصيات الوطنية، بل ذهب إلى القيروان ليلقي خطابا امام نفر قليل من انصاره. 

وكالعادة لجأ إلى الشطحات والمغالطات، وإلى البلاغة الركيكة والجوفاء محاولا ان يوهم المستمعين اليه بانه قادر على الاتيان بالعجب العجاب في زمن الأزمات والكوارث. 

في هذا الخطاب قال المرزوقي بإن تونس تعيش راهنًا "أزمة خانقة وعميقة بكل ابعادها السياسية والامنية والنفسية والاخلاقية والاقتصادية". 

وأضاف أنّ المواطن التونسي "أصبح يشعر بحالة من الاحباط والاضطهاد نتيجة غياب استراتيجية وطنية واضحة شاملة ومتكاملة لمقاومة الإرهاب وبناء التنمية الاقتصادية والاجتماعية على أسس واضحة ومتينة". 

وهذا اعتراف واضح وصريح بخطورة الاوضاع التي تعيشها تونس راهنا. إلاّ اننا لن نسمع من المرزوقي مثل هذا الكلام عندما كان يصول يوجول في قصر قرطاج ببرنسه الاسود زاعمًا أنه رمز "ثورة الكرامة والحرية" التي أطاحت بنظام بن علي. 

مع ذلك يظل الاعتراف من دون معنى إذ أنه - أي المرزوقي - لم يشر مطلقا إلى الاخطاء والهفوات التي ارتكبتها حكومة الترويكا التي كان هو ركنا اساسيا فيها، والتي ادت إلى ما سماه هو ب"الازمة الخانقة والعميقة". 

كما أنه سكت عن الحقائق الحاجبة للواقع والمزوّرة له. ففي كل الخطب والتصريحات التي سبقت خروجه من قصر قرطاج، كان المرزوقي يعتبر ان حكومة الترويكا التي تزعتمها النهضة تصدّت للإرهاب بجديّة!

والحال أنّ تلك الحكومة لم تبذل المجهودات اللازمة للحد من تفشي الارهاب، وتوسعه، بشكل مرعب وخطير ليتحول اليوم إلى ظاهرة تكاد تكون يومية مهددة أمن بلادنا واستقرارها. فهل نسي المرزوقي أن علي العريّض، وكان آنذاك وزيرا للداخلية، ردّ على الذين اكتشفوا أنّ هناك مجموعات تتدرّب على السّلاح والقتال في الجبال بأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد تمارين رياضّية؟. 

كما أن العريض، وهو وزير للداخليّة، انتهج سياسة التراخي والتسامح أمام المجموعات الإرهابية لكي تجد الفرصة للإنتشار في العديد من المناطق، وفى العاصمة والمدن الكبيرة، تاركا وزارة الشؤون الدينيّة تتصرف كدولة داخل الدولة، فاتحة مساجدنا لدعاة التطرف والإرهاب، وغاضة الطرف عن دعوات العنف والتكفير التي يطلقها هؤلاء. 

زاعما انه فعل ذلك تجنبا لما سماه بـ"حمام دم"، ترك العريض زعيم "أنصار الشريعة" الملقب "ابو عياض"، الضالع في العديد من الجرائم الارهابية، يخرج من "جامع الفتح" بقلب العاصمة ليفر إلى ليبيا مع جمع من انصاره. 

ولم يتعرّض المرزوقي في خطبه الجديدة ولو بكلمة واحدة إلى استقباله في قصر قرطاج للجان حماية الثورة المورطين في العديد من قضايا العنف، ولشيوخ التكفير الذين دعواإلى قتل بعض المعارضين من أعلى المنابر. وصمت المرزوقي أيضا عن استغلاله للأعياد الرسميّة والدينيّة لإطلاق سراح عتاة المجرمين والضاعين في قضايا العنف والإرهاب. 

ويكتفى المرزوقي في خطبه الجديدة بالحديث عن ضرورة "تحريك العجلة الإقتصاديّة"، غير أنه لم يقدّم أية رؤية، ولا استعرض أيّ برنامج لإنعاش الإقتصاد التونسي المريض، ولا للإجراءات التي يجب اتخاذها لمكافحة التهريب، والإرتفاع الجنوني لتكاليف المعيشة التي أصبحت تقضّ مضاجع التونسيين بمختلف شرائحهم الإجتماعيّة. 

وبنوع من الإنفعال الرومانسي، يتحدث المرزوقي عن الوحدة المغاربيّة فيبدو وكأنه الوحيد القادرعلى انجازها وتحقيقها ناسيا أن تصريحاته الحماسيّة لا يمكن أن تكون نافعة ولا مفيدة في هذا المجال. ومن دون أن يرفّ له جفن، يردد المرزوقي بإن تونس كانت "معزولة عن العالم" في عهدي بورقيبة وبن علي. 

والحال أن حقائق الواقع التي يشهد بها الجميع تدلّ دلالة قاطعة على أن السياسة الخارجيّة التونسيّة لم تعرف تدنيّا وسقوطا كاللذين شهدتهما خلال فترة حكم الترويكا، ولم يعرف النظام الجمهوري مهانة كتلك التي شهدها عندما كان المرزوقي يمارس شطحاته الايديولوجية والثورجية داخل قصر قرطاج!