الموصل العراقية على مفترق طريقين، فإما أن يكون سقوطها بيد داعش سببًا لحرب أصولية إقليمية طاحنة، أو يكون سقوطها فرصة لنوري المالكي كي يصلح شأن العراق.


ساره الشمالي من دبي: هزيمة تامة تعرض لها الجيش العراقي في الموصل، لدرجة أن الجنود خلعوا زيهم العسكري في الشوارع ولاذوا بالفرار. وتناثرت جثث من تبقى منهم هناك، وبعضها مشوه، وسط مجموعة من ناقلات الجنود المحترقة.

العراق دولة مستقرة!

يقال إن 1500 جهادي من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش) قاموا بالاستحواذ على 6 مروحيات من طراز بلاك هوك، ونهبوا أموالًا لا تعد ولا تحصى من خزائن بنوك الموصل. كما أفرجوا عن آلاف السجناء من سجون الموصل. وبالتزامن مع رفع علم الجهاد الأسود فوق مبانٍ حكومية، يبحث لاجئون يقدر عددهم بنصف مليون عراقي عن ملاذ لهم.

إقرأ أيضًا
العراق في ذمة "داعش"!

وسبق للرئيس الأميركي باراك أوباما قبل عامين ونصف، ومع مغادرة آخر دفعة من القوات الأميركية للبلاد، أن وصف العراق بالدولة المستقرة ذات السيادة، وتعتمد على نفسها. لكنّ الجهاديين يمزقون البلاد، فالموصل ثاني مدينة تتعرض للاحتلال.

وسبق لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن دعا إلى فرض حالة الطوارئ، وتوسل مطالبًا المساعدة من الخارج. وفي اليوم التالي، تمكنت داعش، بمساعدة متمردين من السنة العراقيين، من فرض سيطرتها على تكريت، مسقط رأس صدام حسين، على بعد مسافة ساعتين من شمال بغداد بالسيارة.

بلا رحمة

قبل عام تقريبًا، في آذار (مارس) 2013، أعلنت داعش تمددها نحو العراق. يقود هذه المنظمة الجهادي العراقي أبو بكر البغدادي، ويصل عدد مقاتليها إلى 6 آلاف في العراق و3 إلى 5 آلاف في سوريا، بينهم 3 آلاف من المجاهدين الأجانب، منهم ألف شيشاني، وربما 500 أو نحو ذلك من فرنسا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى.

والمعروف أن داعش منظمة لا ترحم، تذبح الشيعة والمسيحيين والعلويين، وتدمر الكنائس والمزارات الشيعية، وترسل الانتحاريين إلى الأماكن المزدحمة بالمدنيين، غير آبهة بعدد الضحايا.

ما كانت داعش لتتمكن من هذا التمدد، خصوصًا نحو العراق، لو لم تكن تحكم سيطرتها على مدينة الرقة في شرق سوريا، الغنية بالآبار النفطية، والحصينة من الغارات، ما حولها مخبأ لداعش، تخفي فيها رهائن تفاوض على إطلاق سراحهم مقابل فدية مالية.

حرب إقليمية أصولية

يقع الجهاديون خلال الأسابيع المقبلة فريسة لرغبتهم في التوسع وفرض السيطرة. وربما يقوم الجيش بالحشد ليسترد الموصل على الأقل، لكن الأمر لن يكون مريحًا في ظل الانتصارات الرمزية التي يحققها الجيش. وإذ تهدف داعش إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من خلال إنشاء دولة سنية تضم شرق سوريا وقلب العراق، يتركز فكرها المتشدد على نشر الإرهاب في العالم العربي. وإن أتيحت لهم الفرصة يومًا ما، لا شك في أن انتحاريي داعش سيقومون بمهاجمة أوروبا وأميركا.

ومن دون حدوث تغيير في كل من بغداد وواشنطن، تستمر داعش والجماعات المماثلة لها في إثارة الفوضى، قد تتمخض عن حرب إقليمية وأصولية إسلامية، مستعينة بمقاتلين أجانب، بعضهم مخضرم، في حرب تخوضها ضد نظام بشار الأسد في سوريا.

وفي ظل حالة الفوضى في سوريا والعراق، تحصل داعش على الأموال من عمليات الخطف والابتزاز، تصرفها على تخزين السلاح. كما كسب عناصرها خبرات كافية في ساحات القتال تتيح لها التفوق على الجنود العراقيين.

ونتيجة لتعطشها الشديد للدماء، انقلبت عليها جماعات ثورية أخرى في سوريا، وشجبت القاعدة تصرفاتها لأن القاعدة غير موافقة على إنشاء دولة في الوقت الحالي، ولأنها ترفض الوحشية التي تتبعها داعش.

الكل ملام

سمحت تركيا في بداية الحرب السورية لمقاتلين أجانب بالمرور بحرية عبر حدودها، كما منحت حكومات أوروبية لداعش ملايين الدولارات من أجل شراء حرية مواطنين مختطفين. ومن المفارقات أن الأسد ساعد داعش هو الآخر في التفوق على بقية الثوار السوريين بإفراجه عن متشددين من سجون نظامه، وتجنب قصف قواتها ومراكزها.

واللوم يقع كذلك على المالكي وأوباما. فالمالكي حكم وكأنه ديكتاتور قديم نيابةً عن الأغلبية الشيعية. وفور مغادرة آخر دفعة من القوات الأميركية من العراق في 2011، أمر باعتقال نائب الرئيس السني، الذي سرعان ما لاذ بالفرار.

كما فشل المالكي في التواصل مع العشائر السنية التي سبق لها أن أبعدت القاعدة وداعش خلال فترة الاحتلال الأميركي للبلاد. وقام كذلك باطلاق رصاص حي على متظاهرين سنة سلميين.

تفكيك العراق وسوريا

ونتيجة لوجود داعش، عادت معدلات الوفيات الشهرية مرة أخرى لنفس مستويات العام 2008، واتضح أن سيادة القانون باتت أضعف مما كانت عليه إبان حكم صدام، وباتت التوقعات قاتمة بسبب انتشار الفساد وانعدام فرص العمل والتعليم.

ولا يمكن إنكار حقيقة أن أوباما ساعد داعش هو الآخر. فبلا شك، كان قرار سلفه بخوض الحرب في العراق كارثيًا، لكنه بخروجه من العراق، ترك أوباما العراقيين لمصيرهم، ثم رفض الشهر الماضي مطالبات المالكي بأن تقوم أميركا بشن هجمات جوية على الجهاديين. وربما تقوم داعش الآن بتحفيز مساعي تفكيك العراق وسوريا. ومن خلال تزودها بأسلحة حصلت عليها في الموصل، وامتلاكها سيولة نقدية تتيح لها دفع الأموال لجنودها، بوسعها الصمود أكثر فأكثر.

فرصة الموصل

تساعد حرية داعش في الانتقال عبر سوريا والعراق في خلق أرض خصبة للإرهاب العالمي. ورغم أن تركيز الجماعة منصب اليوم على الأراضي، إلا أن أفرادها يقولون إن أهدافهم تنطوي على الغرب وكذلك المنطقة الأوسع في النطاق.

وربما يمتلك مئات مقاتلي داعش جوازات سفر أوروبية. فقد قامت الجماعة بالفعل ببناء معسكرات تدريب في شرق سوريا، ما يُذكِّر بنظام أسامة بن لادن في أفغانستان. ومع هذا، يمكن إيقاف داعش والتصدي لها. فعدد مقاتليها لا يتجاوز 11 ألفًا، يدعمهم المجندون الذين نجحت في ضمهم، والسجناء الذين قامت بتحريرهم من السجون السورية والعراقية.

وبينما يصارع المالكي لتشكيل ائتلاف حكومي، أعطاه سقوط الموصل فرصة ليتخلى عن التفوق الشيعي ويُشكِّل حكومة تمثل كل العراقيين، بمن فيهم المعتدلون من السنة والأكراد. يساعد هذا على التصدي لداعش، خصوصًا إن وجه الأكراد ميليشيات البشمركا لتشارك في القتال. قد يدفع ذلك الجماعات السنية المحلية إلى التوقف عن دعم داعش. ويمكن لأوباما أن يسلح ويدرب الجنود العراقيين، وأن يضغط على داعش في سوريا من خلال القيام بالمزيد لتسليح وتدريب الثوار المعتدلين.

إنقلاب الدوري

ثمة نظريات أخرى تروج اليوم في بعض أروقة القرار الغربي، إذ ثمة من يوجه في الولايات المتحدة عتبًا إلى المالكي لأنه، بحسب مراقبين أميركيين، فشل في اجتثاث حقيقي للبعث من الجيش العراقي. وقد وصف هؤلاء ما جرى في العراق بالانقلاب الذي نفذه ضباط عراقيون زرعهم عزت إبراهيم الدوري بدهاء، من خلال استثنائهم من موجة الاجتثاث عن طريق تهريبهم تحت عنوان المحاصصة الطائفية، وغالبيتهم من نينوى وصلاح الدين، أي من المحافظتين اللتين سقطتا بلمح البصر في يد داعش، أو سلمتا لداعش تسليمًا.

غير أن التقارير الواردة من مناطق داعش في العراق تؤكد التوتر الكبير بين أنصار الدوري من جهة، وبين عناصر داعش من جهة أخرى، وصلت إلى حد الاشتباك المحدود حتى الآن، بسبب تعليق صور للدوري في مناطق تواليه.

بالنسبة إلى هؤلاء المراقبين، سقوط الموصل وضع خطة تقسيم العراق على نار حامية، وفتح باب التدخل الإيراني والتركي والغربي،&ويستحيل إقفاله.