أربع قضايا رئيسية شهدتها الساحة العراقية على مدار الاشهر الـ 12 لعام 2015، في مقدمتها الحرب ضد تنظيم "داعش" الذي احتل ثلث مساحة البلاد، ثم تدهور أسعار النفط العالمية التي وجهت ضربة موجعة لموارد البلاد العامة، ثم الاجراءات التي اطلق عليها الإصلاحات، والتي اصطدمت بمعارضة فاسدين ومستفيدين من كبار السياسيين، إضافة إلى تفاقم أزمة النازحين الذين تجاوز عددهم 3.5 ملايين مواطن.

لندن: كان العام الذي يودعه العراق هذه الايام حافلًا بالأحداث الخطيرة والتطورات المهمة والحاسمة التي سيكون لها تأثير كبير على رسم مستقبل هذا البلد ومواجهته للتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي يواجهها منذ سنوات.

داعش

فقد دخل العراق العام 2015، وهو في مواجهة أخطر تحدٍ يشهده منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) حيث احتل تنظيم (داعش) 30 بالمائة من مساحة العراق في مناطقه الغربية والشمالية مرسخًا وجوده في البلاد باحتلال مدينة الموصل ثاني اكبر مدن العراق بعد بغداد في العاشر من حزيران (يونيو) عام 2014 وليضع البلاد امام مخاطر حقيقية تجسدت في انهيار الجيش العراقي وهروب قادة كبار من جبهات المواجهة مع التنظيم وتخبط في قرارات القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء انذاك نوري المالكي.

وقد اضطر هذا الوضع إلى حشد جميع امكانات البلاد المادية والبشرية والتسليحية والسياسية في مواجهة معركة مصيرية دق خطرها ابواب العاصمة بغداد، لكن ضعف تلك الامكانيات وعدم قدرتها على المواجهة الحقيقية امام تمدد التنظيم إلى محافظات اخرى، فقد استباحت قوى خارجية ممثلة بإيران والولايات المتحدة الاراضي العراقية بموافقة رسمية.

ففي حين استغلت إيران الاوضاع الأمنية الهشة لادخال خبرائها ومستشاريها على رأس مليشيات الحشد الشعبي، الذي تشكل بفتوى من المرجع الشيعي الاعلى آية الله السيد علي السيستاني، للدفاع عن العراق ارضًا وشعبًا ومقدسات واستغلتها إيران للدفع ايضًا بتلك المليشيات المدعومة من قبلها تسليحًا وتدريبًا لفرض سطوتها على الاوضاع الداخلية ولتصبح دولة طائفية داخل الدولة العراقية في استغلال لتلك الفتوى التي كانت دعوة وطنية لكل العراقيين للتأهب في الدفاع عن وطنهم، ما ادى إلى ممارسات مذهبية عدوانية لدى تحرير مناطق سنية من سيطرة (داعش) عمقت من الشرخ الطائفي الذي سبب للعراق النكبات خلال السنوات الاخيرة.

وقد أحدثت هذه التطورات مخاوف داخلية من توسع الانتقامات الطائفية وخشية خارجية من هيمنة إيرانية لا تبارى في العراق، ما ادى إلى منع الحشد الشعبي من المشاركة في تحرير مدينة الرمادي عاصمة محافظة الانبار الغربية السنية ثم ارسال قوة اميركية خاصة لدعم القوات العراقية، الامر الذي تمكنت فيه هذه القوات من انجاز المهمة وطرد التنظيم من المدينة بشكل كامل.. لكن الامر الذي رفضته قوى عراقية هو الدخول الاميركي على خط المعارك واستبدال الوجود الإيراني فيها بآخر، لكنه كان اميركيًا هذه المرة، وكأن قدر العراق هو البقاء رهن ارادات خارجية تتقاطع اجنداتها مع مصالح العراق الاستراتيجية حاضرًا ومستقبلاً.

النفط

ودخل العراق عام 2015 وقد تهاوت أسعار النفط المصدر الرئيسي لدخله الوطني الذي يمثل حوالي 90 بالمائة من الواردات الوطنية لموازنته العامة، الامر الذي شكل تحديًا حقيقيًا لاقتصاد البلاد الذي يعاني اصلاً من النفقات الباهظة للحرب ضد الارهاب.

فقد انخفضت موارد العراق بنسبة 60 بالمائة اواخر العام الحالي باعتراف رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي حذر قبل ايام من طريق مسدود يواجه بلاده نتيجة الازمة المالية الحالية، التي سببها انخفاض أسعار النفط والحرب ضد داعش ووضع البلاد في خطر مالي حقيقي.

وقال إن انخفاض أسعار النفط بشكل كبير ودخول البلد في حرب تستنزف اموالاً كبيرة من الموازنة قد وضع الحكومة في مشكلة مالية، والبحث عن موارد لسد متطلباتها. واوضح ان قيمة النفط العراقي المصدر تقترب من 59 ترليون دينار (55 مليار دولار)، وهناك كلفة لانتاجه فيتبقى من المبلغ 45 ترليونًا (42 مليار دولار)، وهناك ديون متراكمة فالمتبقي يكون 40 ترليونًا (37 مليار دولار) ورواتب موظفي الدولة ومتقاعديها تحتاج إلى 50 ترليونًا (48 مليار دولار).. وتساءل قائلاً " فكيف يتم الصرف على الحرب والصحة والتعليم والزراعة والخدمات والفقراء وغيرها؟".

وما يعمق من ازمة البلاد المالية هذه انخفاض الاحتياطي النقدي للعراق من 88 مليار دولار إلى 40 ملياراً، ما يعني تناقص غطاء عملته الوطنية، حيث تشير مصادر مالية إلى ان واردات العراق من مبيعات النفط تبلغ حاليًا 120 مليون دولار يومياً ومزاد العملة&حيث يقوم البنك المركزي ببيع 200 مليون دولار يوميا ما يشكل كارثة حقيقية لان هناك 80 مليوناً تسحب من احتياطي البنك المركزي يومياً، الامر الذي اضطر العراق إلى وضع امواله تحت وصاية صندوق النقد الدولي الذي اعلن ان احتياطيات العراق من العملة الصعبة لن تكفيه لاكثر من تسعة اشهر، ما يضع البلاد على ابواب الافلاس.

وادى ذلك إلى ضغوط مالية ثقيلة حيث ان أي قرض كبير من صندوق النقد للعراق سيأتي بشروط تفرض على الحكومة خفض دعم أسعار الطاقة التي تشمل المحروقات والوقود كالبنزين وغيرها، وإصلاح المشاريع المملوكة للدولة، وهي خطوات قد تكون صعبة على الصعيد السياسي وتثير احتجاجات شعبية سيكون لها الاثر الخطير على الاستقرار، وعلى مصير حكومة العبادي.

ويقضي الاتفاق العراقي مع صندوق النقد فرض وصاية على سياسات العراق المالية والاقتصادية للعام المقبل 2016، حيث سيدفع هذا بالعراق إلى اصدار سندات بقيمة 6 مليارات دولار العام المقبل لسد عجز الموازنة البالغ 23 مليار دولار، حيث سيتم طرح خمسة منها في السوق المحلية والباقي في السوق الدولية.

النازحون وإعادة إعمار المناطق المحررة

كما استهل العراق عام 2015 واكثر من مليوني نازح قد هجروا مدنهم بسبب سيطرة تنظيم داعش عليها ونتيجة المواجهات العسكرية بين مسلحيه والقوات العراقية سرعان ما تزايد عددهم ليصل في نهاية العام إلى ثلاثة ملايين ونصف المليون نازح هربوا من مناطقهم ومنازلهم بحثًا عن الأمن.

والاسبوع الحالي، عبرت المنظمة الدولية للهجرة في العراق عن الاسف لتزايد هذه الاعداد مؤخرًا بسبب العمليات العسكرية في الانبار وكركوك ومناطق اخرى من البلاد، مشيرة إلى ان الفريق القُطري الإنساني للأمم المتحدة يقوم حاليًا بتخطيط بُنية للإستجابة الإنسانية لأحتواء ملايين النازحين هؤلاء.

واوضحت ان العاصمة العراقية بغداد استضافت أكبر عدد من النازحين بما يقارب 18% منهم أو (577,230 فرداً)، وتليها محافظة الأنبار 18% (570,768 فردًا) ودهوك 13% (409,170) ومحافظة كركوك 12٪ (381,156) وأربيل 10% (329,472) ونينوى 7% (220,398) ومحافظة السليمانية 5% (162,678). وقالت انه بنسبة (44% أو 1,394,190 فردًا) هم أغلبية النازحين الذين ينحدرون من محافظة الأنبار غرب البلاد وبنسبة (33% أو 1,063,470 فردًا) من محافظة نينوى الشمالية، اللتين يسيطر "داعش" على مساحات واسعة منهما.

ويقول رئيس المنظمة الدولية للهجرة في العراق توماس لوثر فايس "نشعر بالأسى لإستمرارية النزوح حديثاً في خضم الصراع المسلح، فالنازحون حديثاً والنازحون على المدى الطويل والعائدون جميعهم بحاجة إلى مساعدات خاصة.. وسوف تستمر المنظمة الدولية للهجرة بالتعاون مع الفريق القطري الإنساني للأمم المتحدة والشركاء في المجال الإنساني والسلطات الحكومية والجهات المانحة بتقديم المساعدات للنازحين العراقيين في جميع أنحاء البلاد في هذا الوضع الصعب".

ونتيجة لهذه الاوضاع الصعبة التي يعانيها النازحون، فقد قرر مجلس الحكومة مؤخرًا تحويل جميع موازنات تنمية الإقليم والمحافظات والبطاقة التموينية في المحافظات التي يحتلها داعش إلى النازحين، حيث ستدفع هذه المخصصات لهم على شكل رواتب شهرية تتراوح بين 300 إلى 400 ألف دينار (حوالي 350 دولارًا) لكل عائلة نازحة مع تخصيص مبالغ لإعمار المحافظات التي دمرها داعش.

وتشكل قضية اعادة اعمار المدن والبلدات العراقية التي دمرتها المعارك، التي دخلت عامها الثاني، بين القوات الأمنية ومسلحي داعش، تحديًا خطيرًا يواجه حكومة العبادي، التي ما فتئت توجه نداءات إلى المجتمع الدولي للمساهمة في إعمار تلك المناطق. وقد استجابت بعض الدول فعلا لذلك من خلال تبرعات تراوحت بين مليون وثلاثة ملايين دولار لكل منها، لكن التحدي اكبر مما قدم لحد الآن في ظل ازمة مالية يعانيها العراق حاليًا، ما يعني ان عمليات الاعمار المطلوبة هذه ستستغرق اعوامًا لانجازها.

الإصلاحات

وخلال العام 2015، شكلت ما اطلق عليها رئيس الحكومة حيدر العبادي (الإصلاحات)، والتي باشر بها في التاسع من آب (أغسطس) الماضي، تحديًا آخر نتيجة الضغوط التي تعرض لها لمنعه من الاستمرار بها من سياسيين ومتضررين، الامر الذي عطلها واثار استياء المواطنين الذين اضطروا إلى الخروج بتظاهرات احتجاج اسبوعبة تعبر عن خيبة الامل من عدم جدية تلك الإصلاحات وتطالب بقرارات حقيقية تواجه الفساد وتحاكم ناهبي المال العام.

ولذلك ظلت تلك الإصلاحات التي تفاءل بها المواطنون في بدايتها عبارة عن اجراءات ادارية وتقشفية لم تمس جوهر آفة الفساد، التي تعاني منها مؤسسات الدولة، كما لم تتم محاسبة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي حكم البلاد ثماني سنوات، واختفى خلالها اكثر من مائتي مليار دولار تم الاعلان عن اجراءات برلمانية لتعقب المسؤولين عن ذلك، لكنه يبدو ان الضغوط والتوافقات السياسية قد منعت الاستمرار بالبحث ولتسجل القضية ضد مجهول!

ومنذ المباشرة بالإصلاحات فقد تصدى لها&ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، ويعتبر العبادي احد قيادييه، وجمع تواقيع لسحب التفويض الذي منحه البرلمان لرئيس الحكومة بتنفيذ هذه الإصلاحات بذريعة عدم جدواها، لكنّ مراقبين اشاروا إلى ان هذه الاعتراضات جاءت نتيجة تضرر مصالح نواب في الائتلاف بها.

وكان مجلس النواب صادق باجماع نوابه في الحادي عشر من اب (أغسطس) الماضي على الحزمة الاولى من الإصلاحات الحكومية التي اطلقها العبادي انذاك كما صوت في اليوم نفسه على حزمة الإصلاحات البرلمانية التي اطلقها رئيس المجلس سليم الجبوري، لكنّ إصلاحًا حقيقيًا لم ينجز على ارض الواقع لحد الان.

يذكر ان العبادي وضمن حزم الإصلاحات التي اطلقها قد ألغى مناصب نواب رئيس الجمهورية الثلاثة، ومناصب نواب رئيس الحكومة الثلاثة، كما اعفى 123 وكيل وزارة ومديرًا عامًا من مناصبهم واحالهم إلى التقاعد.. وايضا قرر تقليص عدد المناصب الوزارية إلى 22 بدلاً من 33 عبر الغاء ثلاثة مناصب لنواب رئيس الوزراء واربع وزارات ودمج ثماني وزارات وجعلها اربعًا فقط. كما قام بتقليص مرتبات المسؤولين الكبار والغاء غالبية عناصر حماياتهم واعادتهم إلى القوات الأمنية.

وأتت هذه الخطوات بعد اسابيع من تظاهرات عمّت العراق طالب خلالها المحتجون بتحسين الخدمات لا سيما المياه والكهرباء ومكافحة الفساد ومحاسبة المقصرين مدعومين من قبل المرجع الشيعي الاعلى آية الله السيد علي السيستاني، الذي شدد معتمده احمد الصافي على ان الإصلاح حاجة شعبية اساسية وجوهرية تتعلق بمستقبل البلاد، ولذلك فإنه من المهم ان يستمر بشكل حقيقي والمضي به بلا تردد أو استرخاء.

لكن العبادي الذي لم يستطع تصعيد عمليات الإصلاح باجراءات حقيقية نتيجة ظروف البلاد العامة وضغوط المتضررين منها، ما يفتأ يحذر من (ان البعض يحاول افشال كل شيء في البلد ويستغل الازمات والتحديات التي يواجهها البلد والمواطن بمطالب غير واقعية للاستغلال السياسي)، كما قال في كلمة له الاسبوع الحالي.

وأقر رئيس الوزراء بأن (العراق يمر بتحديات عديدة، حيث هناك عصابات ارهابية متمثلة بداعش تقتل وترفض التنوع وتحاول الغاء الآخر، وتحدٍ آخر يتمثل بانخفاض أسعار النفط، وهو حالة خطيرة، اضافة إلى محاربة الفساد وفضح الفاسدين).. لكنه يمكن القول إن هذه التحديات مازالت تنتظر اجراءات حاسمة من قبله يبدو انه غير قادر لحد الآن على اتخاذها.
&