كان بإمكان أنجيلا ميركل إنقاذ اليونان جذريًا بحزم مالية صلبة، مع دفع النمو والاستثمار نحو مستويات جديدة، وبالتالي كان يمكن منع حكومة يسارية من التشكل في آثينا، وتجنب الوصول إلى ما وصلت إليه الأمور من خطر. فهل هذا كلام صحيح؟

إعداد عبد الاله مجيد: كانت المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل تستعد لقضاء عطلة نهاية الاسبوع بعيدًا عن مشاغل العمل، لا سيما أنها غادرت القمة الأوروبية بإحساس بأن القمة كانت محطة هامة قد تؤشر إلى بداية انعطاف نحو الأفضل في التعامل مع أزمة الديون اليونانية. لكنها تلقت مكالمة غيَّرت كل شيء، إذ اتصل بها رئيس الوزراء اليوناني اليكسيس تسيبراس لدى عودتها من القمة ليبلغها بأنه لا يريد التوصل إلى اتفاق على اجراءات تقشفية جديدة، بل يعتزم اجراء استفتاء في اليونان اولًا. بعد فترة قصيرة، اعلن في تغريدة على تويتر: "إننا بـ(كلا) واضحة نوجه رسالة مفادها أن اليونان لن تستسلم".

قضت ميركل عطلة نهاية ذلك الاسبوع صامتة، لكنها في اجتماع الاثنين مع قادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه لمّحت إلى خيبة أملها من رئيس الوزراء اليوناني، وقالت إن سياساته "صعبة وايديولوجية، ويقود بلده نحو جدار أصم وعيناه مفتوحتان". وكانت ميركل دائمًا تصف تسيبراس بأنه رجل منفتح ومتفاهم رغم قيادته "حزبًا مجنونًا"، وقد أوقع ميركل في أكبر فشل تُمنى به منذ صارت مستشارة المانيا.

لم يبق شيء نخافه

كيف يمكن التعامل مع رئيس وزراء يخوض المفاوضات باستخدام لغة التعبئة العسكرية؟ فقد كتب تسيبراس في احدى تغريداته على تويتر: "العدالة معنا، ونستطيع التغلب على الخوف، ولم يبق شيء نخافه".

لكن معلقين يرون أن الانقسام الذي حدث في أوروبا يعود إلى اسلوب ميركل في القيادة، وإلى ميلها لترك الأمور فترة مديدة قبل أن تقرر التحرك بشأنها. ومثل هذا الاسلوب لا يصلح حين يكون التعامل مع سياسي مثل تسيبراس، عازم على إيصال الامور إلى نهاياتها القصوى.

وكان واضحًا منذ فترة طويلة أن اليونان حالة خاصة في سياق أزمة اليورو، فهي بلد لا يعمل فيه نظام ضريبي ولا نظام لتسجيل الأراضي، بلد غارق في الديون بحيث لا يوجد اقتصادي جاد يعتقد بأنه قادر على سدادها ذات يوم. يضاف إلى ذلك أن الأحزاب التي نهبت الدولة هي التي حكمت البلد سنوات طويلة. ثم جاءت حركة سيريزا التي كانت اوساطها الراديكالية على الأقل تحلم بتغيير هذا النظام.&

وكانت ميركل تعرف ذلك كله، لكنها مع ذلك حاولت أن تعالج المشكلة بوصفات تستخدمها في السياسة الداخلية الالمانية، أي المماطلة والاختفاء وترك الأمور مبهمة، على حد وصف مجلة شبيغل، مشيرةً إلى أن اصواتًا ارتفعت تحذر ميركل من مغبة اعتماد هذا الاسلوب. فعلى سبيل المثال، دعا وزير المالية فولفغانغ شويبلة إلى تعبيد طريق خروج اليونان من منطقة اليورو.

مدرسة ماكينزي

كانت المانيا بحاجة ملحة إلى إعادة الهيكلة حين تسلمت ميركل مقاليد الحكم، خصوصًا بوجود 4,5 ملايين عاطل عن العمل، وخواء الميزانية المخصصة للضمان الاجتماعي، وعبء الضرائب الثقيل على ارباب العمل. فبدأت المستشارة برنامجًا اصلاحيًا صارمًا وتولت شركة ماكينزي الاستشارية توفير الأرقام لإسناد سياساتها التقشفية.

وتتخصص شركة ماكينزي بتقديم الحقائق على ما فيها من مرارة، وعادة ما تتعاقد معها الشركات التي تريد خفض التكاليف وتسريح اعداد من قواها العاملة في هذا الاطار. فمبدأ ماكينزي يقول إنه من الأسهل على ارباب العمل أن يختفوا وراء تحليلات المستشارين.

طبقت ميركل هذا المبدأ في السياسة. وعندما انفجرت أزمة اليورو في 2010، حرصت على إعطاء دور لصندوق النقد الدولي في إعادة هيكلة الاقتصاد اليوناني، مخالفةً نصيحة وزير ماليتها شويبلة الذي يعتقد أن على أوروبا أن تحل مشاكلها بنفسها.

ويُعتبر صندوق النقد الدولي نسخة من شركة ماكينزي، لكن في السياسة الدولية. فهو يقرض البلدان التي تُبدي استعدادها لاتخاذ اجراءات تقشفية واصلاحات مؤلمة مقابلها.

العودة إلى الحساب

يروق لمستشاري ميركل تصويرها ملكة أوروبا غير المتوجة، والمهندسة التي ترسم للقارة توجهاتها. لكنها بدت في الأشهر الأخيرة تختفي وراء نصائح خبراء صندوق النقد الدولي وتوصياتهم، كما اتهمها تسيبراس. ورأى هذا أن صندوق النقد الدولي رمز للظلم، "وهو مجموعة من التكنوقراط الذين لا شرعية ديمقراطية لهم، لكنهم مع ذلك يعملون على اخضاع بلد بأكمله"، كما قال.

وكان تسيبراس يعرف كيف يحول المقاومة ضد املاءات الصندوق إلى معركة من أجل حق بلد في تقرير مصيره. وكان هدفه رفع المفاوضات الاقتصادية إلى المستوى السياسي. فالسياسة عند تسيبراس عصا سحرية بتحريكها يختفي كل شيء، بما في ذلك جبال من الديون ومستلزمات الاصلاح والقاعدة التي تمنع البنك المركزي الأوروبي من الحفاظ على السيولة بالسماح للبلدان الأوروبية بطبع النقود.

يصعب التكهن بما يريده حزب سيريزا. فهو يضم ماويين سابقين مثلما يضم ديمقراطيين اجتماعيين أُصيبوا بخيبة أمل، البعض يحلم بالثورة فيما يكتفي البعض الآخر بإعفاء اليونان من الديون. لكن منطق تسيبراس يقول إن القواعد التي لا يقبل بها يجب أن يطالب بالغائها.

وفشل ميركل الحقيقي انها لم تقف بحزم في مواجهة هذه الطريقة في التفكير. فهي اختفت وراء ترويكا المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي اولا، لأنها لا تريد أن تكون من يواجه الحكومة اليونانية بالحقائق المرة.

وثانيًا، عندما اصبحت مطالب تسيبراس أشد الحاحًا، رضخت لمنطقه على قاعدة "إذا توفرت الارادة توفر الطريق". وفي المانيا، فُهمت هذه القاعدة بأنها تعبير عن الارادة الطيبة. لكن فهم تسيبراس لها كان مغايرًا، إذ اعتبرها تحديًا لدفع الأمور إلى المواجهة، بحسب شبيغل.

أوروبا ميركل

حين تسافر ميركل لزيارة الصين او اندونيسيا مثلًا، فانها دائما تحمل في جعبتها جداول ورسومًا بيانية لاستعراض ما حققته أوروبا من ازدهار، بما في ذلك لأزمة ميركل الثلاثية التي كثيرا ما ترددها أمام زعماء العالم وهي أن أوروبا تشكل 7 في المئة فقط من سكان العالم، وتسهم بربع انتاجه الاقتصادي، وتنفق نصف ما ينفقه العالم بأكمله على الرعاية الاجتماعية.

لكنها تعلمت من جهة أخرى انها لا تترك انطباعًا ايجابيًا حين تنظر إلى أوروبا بعيون اقتصادية باردة تبدو جافة غير ودية. وهذا يساعد في تفسير السبب الذي مكَّن تسيبراس من تصويرها بصورة الشخصية الشريرة، المهووسة بفرض التقشف على الآخرين لأنها لا تني تتحدث عن إطفاء الديون وأسعار الفائدة.

وميركل الشغوفة بالأرقام ليس لديها اوهام بشأن اليونان، وهي لا تعتقد أن الطبقات السياسية في اثينا ستتمكن من وضع البلد على السكة الصحيحة. وذات مرة، انتابت المستشارة نوبة ضحك قائلة إن الحكومة اليونانية ترفض تسديد فاتورة غواصات المانية بدعوى انها غواصات "مغشوشة".

وفي تشرين الأول (اكتوبر)، زارت ميركل رئيس الوزراء اليوناني وقتذاك انتونيس ساماراس الذي لم تكنّ له الكثير من الاحترام، بحسب شبيغل، مشيرة إلى أن ساماراس فاز في الانتخابات زعيمًا لحزب الديمقراطية الجديدة المحافظ بمعارضته برنامج الاصلاحات التي طالب بها دائنو اليونان، لكنه تراجع وامتثل لهم بعد انتخابه.

وفي رحلة العودة، روت ميركل كيف تباهى ساماراس قائلًا إن وزراءه يستطيعون الاتصال به خلال عطلة نهاية الاسبوع ايضًا. وتساءلت ميركل كيف يستطيع بلد أن يتقدم حين ينظر قادته إلى أن مثل هذا الشيء البديهي عمل بطولي؟

إمبريالة تربوية

بعد أزمة اليورو في العام 2010، اتبعت ميركل سياسة "امبريالية تربوية" على حد وصف مجلة شبيغل بإلقاء محاضرات عن ضرورة الانضباط المالي واصلاح سوق العمل والخصخصة. ونُفذت هذه التعليمات في اسبانيا والبرتغال وايرلندا بنتائج ايجابية ولكن اليونان لم تنظر إلى شروط الدائنين على انها دواء مر ولكنه دواء لا مفر منه، بل سم يدمر المجتمع.

ورأت ميركل ما حدث، لكنها لم تكن شجاعة لمواجهة التداعيات. كان هناك بدائل، إذ كان بمقدورها أن تقترح على اليونان طريقا آمنًا ومدعومًا للخروج من اليورو. وهذا ما دعا اليه وزير ماليتها شويبلة منذ سنوات. وكانت تستطيع أن تعرض على اليونان شطب نسبة من الديون. ولو فعلت ذلك في الوقت المناسب لحالت على الأقل دون دفع السياسة اليونانية إلى الراديكالية.

لم يكن أي من هذه الخيارات محصنًا ضد المخاطر وكانت تتطلب شجاعة وتمويلا وكانت ستعرض ميركل إلى انتقادات. وهذا ما لم تكن تريده. فاختفت وراء الترويكا، وراء تكنوقراط مكروهين معجِّلة بصعود سيريزا. بل يمكن القول إن تسيبراس هو إلى حد ما نتاج اسلوب ميركل المتردد في القيادة.

في غضون خمسة اشهر، وبالتحديد في 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، سيكون عقد كامل مر منذ تولي ميركل منصب المستشار. وهي اول امرأة تصبح مستشارة في تاريخ المانيا، وما هذا بالشيء القليل بل يتسم بأهمية رمزية بالغة.

لكن مجلة شبيغل نقلت عن مصادر قريبة من ميركل انها عازمة على الترشح مرة اخرى في الانتخابات المقبلة. فهي تريد أن تستخدم سلطتها لاعادة تشكيل القارة الأوروبية. وإذا تفككت منطقة اليورو في هذه الأثناء فإن هذا الحدث سيلقي بظلاله على طيلة فترة حكمها. وسيُنظر اليها على انها رئيسة حكومة فاشلة.