لا ليل في بغداد التي يقطنها سبعة ملايين عراقي، فما ان يهبط الظلام ويسود المدينة، حتى تغفو وتنام ، فتغيب الحركة عن شوارعها العامة ويمسي مركز المدينة مجرد خواء يبث الرعب في القلوب، فتضج مساءاتها بالحرمان، ويبكي عاشقوها على وقع خطواتهم المتعبة.
&
عبد الجبار العتابي من بغداد: البحث عن الليل الجميل في بغداد امسى صعبا في جانبيها الكرخ او الرصافة، بل ان الخوف هو الاكثر تسيدا في مناطقها وخاصة في مركزها الذي يفترض ان يكون عادة محطة استقطاب للناس الا ان اهم شوارع العاصمة تتحول الى فراغات هائلة تتداخل الظلمة في ارجائها ولا يتسرب سوى الخوف الى قلب العابر منها او السائر فيها ومثلها المتنزهات العامة والحدائق فلا تحفل بغير الظلمات، فالوحشة سارية المفعول حتى ان الخطوات تتلفت في الاتجاهات بشكل عفوي لان كل ما حولها يثير الريبة .
&
في جانب الرصافة ذات الامكنة المهمة ليست هنالك سوى الكرادة الشرقية (داخل) بشارعها الطويل تعرف شيئا من السهر الذي لا يمتد عادة الى اكثر من الساعة 10 مساء ثم تبدأ المساحات بالانطفاء، لانها منطقة شعبية، اما الكرادة (خارج) فتنام اغلب محالها التجارية مع اول الليل ويبقى الشارع مزدحما الى نحو العاشرة مساء بسبب عودة الاسر الى بيوتها، وحتى الامكنة التي توجد فيها حانات وملاهي وان كانت بلا عناوين او علامات دالة عليها تجدها غائصة في الظلام او ربع مضاءة يغلفها خوف من المجهول وهي الوحيدة التي تسهر خلسة، فيما الكثير من الفنادق هناك اغلقت ابوابها.
&
قلت لواقف على عربة ليل: كيف الليل معك؟ فقال: رزقي على السكارى المساكين الذين لا يعرفون اين يذهبون ليشربون، انظر هناك في الزاوية المظلمة، هكذا هم فلا حانات تلمهم ولا اماكن ترفيه، واضاف: الليل في بغداد لم يعد ذلك الليل الذي يتحدى النهار، لان بغداد تنام وقت المغرب ولم يبق الا اصحاب الارواح المعذبة المختنقة الذين يبحثون عن الراحة فلا يجدونها.
&
وتابع: في العديد من ساعات الليل ابقى وحدي فأجدني اغني (يا ليل يا عين)، وبصراحة ليل الشتاء اكثر وحشة من ليل الصيف ان وجد ليل بالمعنى الحقيقي، صدقني حتى السكارى يخافون من الليل لانهم لا يعرفون ماذا يخبيء لهم خاصة ان وضعنا ما تعرف فيه الشرطي من الحرامي.
&
سهر مرتبك
&
وفي شارع السعدون الذي كان متخما بدور السينما واغلقت جميعها، لا يجد المار فيها سوى حزم من ضوء تلهث في المكان على مسافات متباينة لا سيما من بعض اصحاب المطاعم الذين يستغلون الرصيف فينشرون مناضدهم وكراسيهم، وان كان طرف الشارع القريب من موقع سينما بابل يسهر &من دون ناس حيث هنالك مخازن بيع الكحوليات وعربات باعة (المزة) مثل الحمص المطبوخ الذي يسمى عراقيا (اللبلبي) والباقلاء &فسهر هؤلاء مرتبك على امل ان يمر عابرون يبحثون عن (شراب) يأخذونه ويذهبون به الى حدائق ابو نؤاس المظلمة فيفترشون العشب، فيما طرف الشارع من جهة الباب الشرقي ليس هنالك غير الرهبة تملأ نفس الانسان فالانوار قليلة جدا فيما المكان خاليا من الناس والسيارات الا بالمصادفات وكل شيء يوحي بالتوجس، اما ساحة التحرير فيدب فيها الهاجس السيء وان كان هناك شرطيا مرور منشغلين بالحديث فيما بينهما حيث النظر الى جهتي حديقة الامة: البتاويين او الفناهرة يأخذ الروح فكأنك ترى اشباحا تتطاير امام عينيك ، واذا ما ابتعدت قليلا الى ساحة الخلاني فهذه مجازفة فالظلمات لها مخالب والتوجس تشعر به مع كل حركة واذا ما نظرت بعيدا على امتداد شارع الجمهورية فليس هنالك غير ان ترثي لحال بغداد&
وما عليك الا ان تردد قول الشاعر فاضل الشعيراوي "الطرقات متورمة بالأسئلة .. وجهاتي تلتفت الى الوراء".
&
هناك التقيت الاعلامي في قناة السومرية قثم زهير القيسي، فقال: هل في بغداد ليل؟ انا اجد نفسي في الكرادة الشرقية او منطقة العرصات لوجود مكان عملي لكنني لا اشعر بوجود الليل الذي نعني به السهر والمتعة والاسترخاء، بالاساس الحركة التجارية للاسواق ومحال الملابس بعد الساعة العاشرة تكون معدومة او شبه معدومة. فلسنا كأسطنبول او نيويورك هذه المدن اليلية.
&
واضاف: في بغداد لا يزال الهاجس الامني يأخذ مأخذه من كل شيء فيها، لا توجد دوافع للخروج في الليل واماكن الترفيه والتخفيف من وطأة الحياة اليومية مقتصرة على المطاعم وبعض المقاهي، واعتقد اننا بحاجة الى استراتيجية لاستثمار ليل بغداد، طبعا استراتيجية حكومية، مثلا ان نحول مناطق بغداد القديمة في الحيدر خانة والسعدون الى مقاه واجواء جميلة من الممكن حتى استقطاب سياح من خارج العراق، كذلك بحاجة الى تفعيل المتنزهات ليلا كالزوراء، واعتقد لو نجح مشروع قناة الجيش سيسهم بأعادة ليل بغداد.
&
سكون رهيب
&
اما شارع الرشيد الرئيسي الشهير فهو كأن كل كيلومتراته الاربعة مقابر تقبض النفس، ارجاؤه مظلمة ورهيبة، كل شيء فيه ساكن وصامت والسواد يخيم في الاشياء، حاولت ان ادخله اول الليل من جنوبه فهالني السواد الذي يجلله، كأن نهر الشارع فم سيبتلع من يمر به حيث تنقطع السيارات والمارة عنه تماما، حاولت ان ادخل اليه من ربعه الثالث لكن الفراغ افزعني، اقشعر جلدي ازاء ظلام دامس بالقرب من جسر السنك، قلت لامزح مع نفسي واقول انني ذاهب الى منتدى المسرح القريب من هناك لكن الظلمة الحالكة كانت تفزعني مثل وقع خطواتي التي همدت، رثيت لحال شارع الرشيد وكنت اشير داخل نفسي الى مقهى (البرازيلية) التي كانت تكتظ بروادها وكذلك مقهى (المربعة) الحيوية وامامها سينما الزوراء المضاءة، ورحت اتساءل عن حال الناس الذين يعيشون في منطقة (المربعة) فكان الجواب حاضرا انهم يغلقون ابواب بيوتهم الصغيرة وينامون.
&
عدت ادراجي الى منطقة السنك، فالمشهد لا يشبه النهار، فالمكان الذي لا محط لقدم فيه يغدو بعد الساعة الرابعة مقفرا تماما ولن ترى سوى اكوام النفايات وربما تسمع صوت سيارة اجرة عابرة ينادي سائقها في الفراغ (بياع.. بياع)، قلت للسائق انتظر فاستقليت السيارة معه وسألته فقال: جئت من الباب الشرقي، ليس هنالك من بشر، هذا اخر فرصة عمل لي لهذا اليوم بعده سأخلد الى الراحة في بيتي، لا ناس في هذه الشوارع فلا شيء يجعل الناس تأتي اليها، انظرها ليس سوى الظلام والبرد والهدوء، حتى نهر دجلة تشعره حزين لان ضفافه نامت باكرًا. واضاف: كانت بغداد تسهر للصباح لان فيها امان واماكن تسلية وترفيه اما الان فليس سوى بنايات مهجورة ومحال مغلقة.
&
فراغ هائل&
&
وحينما فكرت في يوم اخر ان ادخل الشارع من شماله حيث ساحة الميدان وقرب تمثال الشاعر معروف الرصافي لم اجده افضل من جنوبه فالوحشة تتسيده وكل شيء تحيط به الظلمة والصمت الذي يوصف بالرهيب حتى يخيل اليك ان هذه البيوت البغدادية القديمة مجرد آثار مر عليها الزمن، حاولت ان اذهب اليه من جهة جسر الشهداء لكنني ما وصلت منتصف الجسر حتى كان الفراغ الهائل والظلمة الحالكة في اغلب المواقع يمنح القلب فرصة للهرب حتى وان كانت نقطة سيطرة امنية، خاصة ان المكان في الساعة الرابعة عصرا يلم نفسه ويقفر تماما.
&
قال الكاتب والشاعر قاسم وداي الربيعي: آه بغداد، بغداد سرقوها، سرقوها واستفاقت، ولن تمسك اياديهم، يدها بيدي، تتنفس عباراتي. وحين طلبت منه ان يخبرني عن شارع الرشيد قال: يا صاحبي خليني ابكي بحضرتك لماذا أسكتني؟ بغداد هي تكبيرة الشرفاء، الليل موحش صوت القادم يسرق عيوني، اما شارع الرشيد فهو مأوى للظلامِ أزقته القديمة ..لها دوي القفر الأحمر بغداد ...آه .. ما زلتُ اقرأ تقاسيم ضجتنا يا صديقي، جريدة الراصد، الف باء الجمهورية، وكيف كنا نمضي كما المراكب تحمل الزهر يا صاحبي، سرقوها، وسرقونا القادم من بعيد .. كان هولاكو، ميتون جميعنا ثقافتنا اتحادنا صحافتنا زهور حسين (مطربة) رياض احمد (مطرب)، فليح وداي (صحفي)، ناطق هاشم (لاعب كرة قدم)، أنا وانت.
&
واضاف: حاولت ذات ليلة السير في شارع الرشيد، حاولت لكني شعرت انني مقبل على مغارة، وقبل اشهر كلفني صديق في الخارج قال صور شارع الرشيد ليلا لكني بصراحة خفت وقلت في نفسي صاحبي بطران ارجع لاهلي احسن لي، فهناك كان الظلام مطبقا وحتى البنايات صامتة بحزن.
&
الكرخ ليس مختلفا
&
ولا يختلف جانب الكرخ عن الرصافة، فالظلام يترك اثاره على كل شيء وان كانت الشارع الرئيسي النازل من علاوي الى الحلة الى شارع المطار مضاء باضواء اعمدة الشوارع التي تعتمد على الكهرباء الوطنية وان انطفأت اظلمت، الا ان الساعة العاشرة فيه تعلن العد التنازلي لعودة الناس الى بيوتهم بعد ان يغلق (مول المنصور) ابوابه ويخلو شارع الكندي في الحارثية من الناس وتمسي المقاعد في المطاعم والكافتريات خالية تصفر فيها ريح الوحشة، والحال نفسه في البياع التي شارعها الكبير يحمل الرقم (20) فيه الصور تكتظ بالحيرة ولا تسمع وقع اقدام ولا ترى الا اضواء خافتة من بعض البيوت فيما الرصيف يبدو في الظلام كأنه اكواخ لكثرة دكاكين باعة الرصيف المشيدة من القماش السميك.
&
صادفت في احدى جولاتي المصور الصحافي صفاء علوان فقال: اوف اوف، لا تسلني عن شوقي الى ان اسير في ليل بغداد وانا اشعر بالاستمتاع وألتقط الصور ولكن ليس هنالك من هذا، واضاف: مرة قلت لصديق ونحن نسير في بغداد بعد انتهاء فعالية فنية مساءًا. لقد ظلمت هذه المدينة من كل حي يعيش فيها من الكائنات كلنا اهملناها وتجاهلنا شبابها الدائم فبغداد مدينة لا يمكنك انت تتخيلها عجوزا.
&
وتابع: انا كمصور يؤلمني جدا ان اسافر واشاهد مدن العالم ليلها كنهارها ومدينة بغداد تغط في ظلام وكأن الجميع اتفق على عدم اضاءة هذه المدينة لتعود لها الحياة.. وختم بالقول: اكثر من مرة شعرت بالخوف وانا امشي في شوارعها ، كنت اخشى ان اتعرض لاي عمل اجرامي كوني احمل حقيبة كبيرة تحتوي كل ادوات التصوير.
&
استثناء!
&
يمكن القول ان مدينة الكاظمية وحدها الاستثناء لوجود مزار ديني للامام موسى الكاظم، وهذا يجعل المدينة فياضة بالضوء ومحالها التجارية، لا سيما في شوارعها العامة التي تبقى مستيقظة الى وقت متأخر والناس تملأ المكان ذهابًا وإيابًا، لكن ما حول المدينة غير داخلها ابتداء من ساحة عدن نزولا الى شارع الربيع في حي الجامعة، فالظلمة قاسم مشترك والشوارع شبه خالية والارصفة بلا ناس، وليس هنالك غير ان تنظر وجه المدينة الكبيرة بغداد من اي مكان تجده مناسبا لترثي لحال التي قال فيها الرحابنة: "بغداد والشعراء والصور، ذهب الزمان وضوعه العطر، يا الف ليلة يا مكملة الاعراس يغسل وجهك القمر".

&