شاركت دوار هيشر التونسية مع غيرها من المدن التونسية في ثورة 2011. ولكنها أصبحت في أجواء الحرية الجديدة مسرحًا للخطب الدينية والاحتجاج وأحيانًا عنف الاسلاميين. واليوم تخفق الراية السوداء للتطرف فوق العديد من أبنيتها.&

إعداد عبد الاله مجيد: استغل السلفيون أجواء الانفتاح محاولين فرض تفسيرهم للشريعة على العديد من أحياء مدينة دوار هيشر التونسية. وينتمي بعض السلفيين إلى جماعة أنصار الشريعة التي بدأت تهاجم قوى الأمن التونسية. وفي عام 2013 انتقل السلفيون إلى العمل السري وبدأ شباب وشابات يختفون من احياء المدن التونسية، كما في مدينة دوار هيشر.&

وقال المهندس محمد وهو شاب في آواخر العشرينات من أهل دوار هيشر إن 90 في المئة من الاصدقاء الذين كان يدرس ويمارس رياضة الملاكمة معهم هاجروا ولكن ليس إلى ايطاليا على الضفة الأخرى من المتوسط بل إلى سوريا والعراق. ولم يعد هناك شباب في احياء المدينة. واضاف محمد لمجلة نيويوركر أن السبب الرئيسي هو "التهميش والبطالة".&

إبداع داعش

وغادر مهندس الاتصالات العاطل نبيل السليتي صديق محمد مدينة دوار هيشر للقتال في سوريا. وقال أسامة رمضاني رئيس تحرير عرب ويكلي الصادرة بالانكليزية في تونس إن المتطرفين في العالم العربي هم على الأغلب اشخاص ذوو اختصاصات تكنولوجية أو علمية لم يتلقوا تعليما في الانسانيات التي تنمّي الفكر النقدي.&

وقبل أن يغادر المهندس السليتي للقتال في سوريا سأله محمد عن السبب فأجاب "أنا لا استطيع ان أبني أي شيء في هذا البلد ولكن تنظيم "داعش" يمنحنا الفرصة للابداع، لتصنيع العبوات واستخدام التكنولوجيا". في صيف 2013 فجر السليتي نفسه في عملية انتحارية في العراق.

مفتاح تونس

حمزة المغراوي شاب آخر من ابناء دوار هيشر التحق بجبهة النصرة في سوريا وعاد في 2013 ليروي قصص الحرب في المقهى المفضل لديه. وعاد المغراوي إلى سوريا لينضم إلى داعش هذه المرة واشتهر في مدينته حين ظهر على شريط فيديو يشارك في القبض على الطيار الاردني معاذ الكساسبة الذي اعدمه داعش بطريقة وحشية. ولاحقا قُتل المغراوي في ضربة جوية اميركية.

كمال شاب آخر من ابناء دوار هيشر شارك في ثورة الياسمين ثم دفعته البطالة إلى المشاركة في تظاهرات نظمتها جماعة انصار الشريعة، وقُتل العديد من اصدقائه في الخارج حيث اصبحوا "جهاديين"، والذين عادوا كانوا يُسجنون بتهمة دعم الارهاب. ولم يكن كمال مستعدا للقتال في سوريا ولكنه يكره فكرة البقاء في تونس حيث قال "ان الأثرياء في تونس يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقرا".&

واضاف كمال لمجلة نيويوركر "ان الشباب ضائع وليس هناك عدالة" مشيرا إلى أنّ دوار هيشر هي "مفتاح تونس ومن يريد وقف الارهاب عليه ان يبني مدارس جيدة ويأتي بخدمات نقل لأن الطرق رديئة، وأن يوفر فرص عمل للشباب كي تصبح دوار هيشر مثل مناطق اخرى من تونس يأتي اليها الغربيون للهو". وحين سُئل كمال كيف يرى مستقبله اجاب بالانكليزية "اسود".&

معظم شباب مدينة دوار هيشر التونسية غادروها

أكبر منتج لـ "الجهاديين"

بحسب تقرير أخير نشرته مجموعة سوفان غروب الاستشارية المتخصصة بالشؤون الامنية الاستخباراتية فان ما بين 6000 و7000 تونسي رحلوا لـ "الجهاد" في سوريا والعراق وان 1500 آخرين على الأقل عبروا الحدود إلى ليبيا.&

وتشير بعض التقديرات إلى أنّ التونسيين يشكلون نصف "الجهاديين" في ليبيا. وعاد نحو 700 تونسي إلى بلدهم وتقول السلطات التونسية انها منعت 16 الفاً من الانخراط في "الجهاد". وهذه الأرقام تجعل تونس الذي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة أكبر منتج لـ "الجهاديين" متفوقة على أقرب البلدان المنافسة لها مثل روسيا التي يزيد عدد سكانها اضعافاً مضاعفة على عدد سكان تونس.&

وقال "جهادي" سابق لمجلة نيويوركر "ان السبب قد يكون طبيعة التونسي، فنحن نحب المخاطرة" مشيرا إلى أنّ من بين مليون تونسي يعيشون في المهجر فان "الكثير من تجار المخدرات هم تونسيون والكثير من مهربي البضائع بين تركيا واليونان تونسيون".&

ونال التونسيون سمعة بكونهم من أشرس "الجهاديين". وقال سوري هارب من دير الزور لصحيفة ديلي بيست ان اسوأ افراد الشرطة الداعشية هم التونسيون واصفا اياهم بالقول "انهم ساقطون اخلاقيا وغير متدينين وفاسدون ويعاملون الناس معاملة سيئة في حين أن القادمين من بلدان الخليج ليسوا سيئين مثلهم".&

وجه لا إنساني

وفي تونس قالت أُنس بن عبد الكريم التي ترأس منظمة "البوصلة" المدنية "ان التونسيين الذين يرحلون هم الأشد عنفًا ويكشفون عن وجه لا إنساني حين يتوجهون إلى مناطق الجهاد". وأوضحت "ان الظلم يسهم في ذلك حين يشعر المرء انه لا ينتمي إلى تونس ويشعر ان تونس لا تقدم له شيئا". وقالت ان ثورة الياسمين سُرقت من الشباب.&

التربية الدينية في تونس الزامية ولكنها سطحية وتلقينية. وقال رمضاني رئيس تحرير عرب ويكلي "ان رواية المتطرفين تقول لك ان كل ما تعلمته خطأ وعليك ان تنبذه، ونحن لدينا الجديد. فالاسلام التقليدي المعتدل لا يمنحك المغامرة التي يمنحها سرد داعش، وهو لا يمنحك إغراء التمتع ربما بوحشيتك الداخلية. وداعش يقدم ملاذا كاذبا للعقول السقيمة".&

الحرية الجديدة

المؤكد أن الديمقراطية التي حققتها ثورة الياسمين لم تصنع من الشباب التونسيين "جهاديين" لكنها أعطتهم حرية التحرك ضد البؤس الذي يعيشونه. ويرى محللون ان الثورة بانعاشها الآمال ثم احباطها أوجدت ظروفا مناسبة لازدهار التطرف.&

واصطدمت الحريات الجديدة بالأساليب القديمة للدولة البوليسية حيث فجأة وجد التونسيون أنفسهم قادرين على الانضمام إلى منظمات مدنية وسياسية ولكن قوات الشرطة كانت تلاحقهم بسبب التعبير عن الاستياء من اوضاعهم.&

فالبطالة بين التونسيين المتعلمين تزيد مرتين على حجمها بين غير المتعلمين لأن الاقتصاد لا يوفر إلا القليل جدا من الوظائف المهنية وان ثلث الخريجين في السنوات الأخيرة بلا عمل. وكان الاحباط دفع التونسيين للنزول إلى الشوارع في عام 2011 وثمة اليوم دافع مماثل من اليأس يرمي الشباب في احضان الجهاد. وقالت الباحثة الاميركية المختصة بدراسة الحركات الاسلامية في الشرق الأوسط مونيكا ماركس "ان هناك كثيرين لديهم طموحات لكنهم لا يستطيعون تحقيقها".&

مركز ألعاب في دوار هيشر

الحاكم

وأشارت أُنس بن عبد الكريم رئيسة منظمة "البوصلة" المدنية إلى مبنى وزارة الداخلية قائلة "كان يجب ان يحولوها إلى متحف ولكنهم ما زالوا يستخدمونها". وتراقب منظمة البوصلة عمل البرلمان وتعمل من اجل تطوير الادارة الحكومية والأخلاق السياسية.&

وقالت ان التونسيين يسمون جميع اصحاب السلطة "الحاكم"، من رئيس الجمهورية إلى رجل الشرطة. وهذا يكشف عن الموقف بين المواطن والدولة. فالمواطن لا ينظر إلى الدولة على انها موجودة لخدمته بل الدولة موجودة لاستغلال المواطن وهذا يسبب انهيارا تاما لمفهوم المواطنة.&

وتحدثت بن عبد الكريم عن ندوة نظمها ناشطو منظمة "البوصلة" مؤخرا بين سكان قرية قرب جبال شعانبي وممثليهم المنتخبين. ولم يسبق ان وقعت انظار سكان القرية على ممثليهم المنتخبين. وأقرب مستشفى يبعد كيلومترات عن القرية.&

ونقلت مجلة نيويوركر عن بن عبد الكريم "ان القرويين قالوا انهم لا يشعرون انهم ينتمون إلى تونس. ما الذي قدمته لي الثورة؟ أنتم النواب ماذا فعلتم لي؟".

وتعتزم منظمة "البوصلة" ارسال كوادر إلى العديد من بلديات تونس البالغ عددها 264 بلدية للعمل بين اهلها. وقالت رئيسة المنظمة أُنس بن عبد الكريم "لا يحق لنا ان نفقد الأمل" مؤكدة ان ما في تونس "ليس تغييرا بل فرصة للتغيير ونحن لدينا فرصة للقول اننا كبلد عربي ومسلم ليس محكوما علينا بالاختيار بين الدكتاتورية والعنف".

عنف وفساد

في القصرين قال الناشط طاهر الخضراوي "ان لدينا الكثير من العنف في داخلنا والكثير من الفساد في النظام". واضاف "ان الثورة كشفت عما كان مخفيا، وأعطتني صورة أوضح عن طريقة التشخيص".&

من جهة أخرى، قال الشاب شكري وهو موظف حكومي "ان شيئا لم يتغير. فإن فضاء فُتح للنقاش والنقد والأرضية أصبحت اكبر ولكن شيئا لم يتغير في المجتمع أو الاقتصاد".&

وأشار الخضراوي إلى أنّ الضغط الشعبي أجبر اعضاء البرلمان على اعادة النظر بقانون مثير للجدل لو أُقر لصدر بموجبه عفو عن المسؤولين ورجال الأعمال الذين أُدينوا بتهمة الفساد في عهد زين العابدين بن علي. ولكن حمزة وهو شاب عاطل منذ ان تخرج من كلية ادارة الأعمال قال ان القانون سيمر في النهاية وسيصدر العفو عن هؤلاء الفاسدين.&

وبعد جدال ساخن حول تمرير القانون أو عدم تمريره انتقل الحديث إلى الحركات الجهادية في القصرين التي فقدت الكثير من شبابها في سوريا وعانت القتال في الجبال القريبة. وفي هذا الشأن قال الخضراوي لمجلة نيويوركر "ان لدينا نوعين من الارهاب، نوع في الجبال والآخر على الساحل، ارهاب اللوبيات التي تدير الاقتصاد. ونحن كشباب تونسيين نعيش بين الارهابيين".&

مختبر الثورة

ما زالت القصرين مختبرا للثورة. ففي مطلع 2016، بعد خمسة اعوام على انتفاضات الربيع العربي، انتحر الشاب رضا اليحياوي مصعوقا على عمود الكهرباء امام مقر محافظة القصرين احتجاجا على عدم قبوله في وظيفة عمومية. وبعد الحادث مباشرة حاول العديد من الشباب الآخرين الانتحار بالطريقة نفسها. وبدأت الاحتجاجات في القصرين ثم امتدت بسرعة إلى أنحاء&تونس.&

في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) فجر بائع متجول من دوار هيشر حافلة تنقل عددا من افراد الحرس الرئاسي وفجر معها نفسه وسط العاصمة تونس. وأعلن داعش مسؤوليته عن الهجوم، كما فعل بعد المجازر التي وقعت في متحف باردو ومنتجع سوسة.&

ويتلقى إرهابيون تونسيون تدريبًا في أحد معسكرات داعش خارج مدينة صبراتة الساحلية الليبية التي تبعد ساعتين شرق مدينة بن قردان التونسية. ويذهب الموقف الرسمي إلى أنّ وجود داعش وجود ضئيل لا يُذكر في تونس.&

وقال وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي لمجلة نيويوركر "ان الارهاب ليس ظاهرة تونسية بل يأتي من الخارج". ولكن قانونا لمكافحة الارهاب صدر بعد مجزرة سوسة يجيز للشرطة اعتقال المشتبه بهم وابقاءهم رهن التوقيف إلى حد أسبوعين من دون تهمة. وبحسب ارقام وزارة الداخلية فان 100 الف تونسي أو 1 في المئة من السكان تعرضوا للاعتقال في النصف الأول من عام 2015.&

قال المستشار الأمني الاسباني سيرجيو التونا الذي يعيش في تونس ان داعش "ليس منظما مثل تنظيم القاعدة"، ولكنه اضاف "لدينا جار غير مريح في ليبيا حيث يستطيع عناصر داعش ان يعملوا ويتدربوا ويقاتلوا، ومن السهل العودة".&

ولاحظ المسؤول في وزارة الخارجية الاميركية توم مالينوفسكي ان لدى داعش اسبابا وجيهة لتقويض الديمقراطية التونسية بوصفها "نموذج الحكم الجديد الوحيد الذي ظهر في العالم العربي منذ غليان الربيع العربي".&

أقصر طريق إلى الجنة!
&
قال أحمد وهو ابن عائلة عمالية ترك الدراسة الثانوية واصبح كهربائيا لكنه لم يتمكن من ايجاد فرصة "ان انتعاشا حدث بعد الثورة، في الدين، في المخدرات، في كل شيء، بسبب الحرية الجديدة". وكان هناك انتعاش في الهجرة ايضا. ففي الأشهر الثلاثة الأولى بعد الثورة أبحر 25 الف تونس في زوارق إلى صقلية.&

وحاول احمد ايضا الهجرة في ليلة رأس السنة عام 2011 لكن الشرطة اجهضت محاولته.&
في ربيع 2013 حاول احمد مرة اخرى ان يغادر تونس، هذه المرة إلى سوريا عن طريق ليبيا.&

ولكن والده صادر جواز سفره فقرر احمد ان يعبر الحدود بمساعدة مهربين. وكانت أفضل طريقة للقيام بذلك من خلال شبكة الجهاديين في مسجد الحي الذي يسكنه ولكن بعضهم وقعوا في قبضة السلطات. لذا قرر احمد السفر إلى بن قردان بمفرده.&

كان لدى أحمد صديق في بن قردان اسمه وليد اتصل به لمساعدته على العبور إلى ليبيا. ولكن وليد الذي عاد لتوه من سوريا حاول اقناعه بالعدول عن قراره. وقال له وليد حين التقى الاثنان في الشارع ألا يذهب لأن جهاد داعش "مصيدة يموت فيها الشباب". ورأى وليد في احمد نموذج الشاب الذي يستغله داعش ساذج، تائه يبحث عن أقصر طريق إلى الجنة".&

وقال وليد لصديقه "ان الموت شهيدا شيء جميل ولكن الموت شهيدا على حساب شعب وبلد ليس صحيحا. وإذا تمكنت من مساعدة بلدك فان هذا أفضل من الموت لكي يعيش آخرون في جحيم".&