خاص بايلاف من باريس: تميزت سياسة فرنسا في ولايتي جاك شيراك الرئاسيتين (1995-2007) بعلاقات ممتازة مع دول المنطقة العربية وقادتها. وانطلاقًا من معرفة شيراك بأزمات المنطقة وعلاقاته الشخصية بقادتها، دعم لبنان، وارتبط بعلاقات صداقة مع رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، وساهم في وقف لإطلاق النار في الجنوب اللبناني، وساهم في استصدار القرار 1559، وتقرب من سوريا لكن سرعان ما قاطعها بعد اغتيال الحريري، وعارض الحرب الأميركية على العراق، ودعم القضية الفلسطينية، وبقي قريبًا من دول الخليج وحذرًا في العلاقات مع ايران، ونادى بعالم متعدد الأقطاب، ولم يحِد عن السياسة الديغولية.

معرفة بقضايا المنطقة

جورج مالبرونو، صحافي مختص في شؤون الشرق الأوسط في جريدة لوفيغارو الفرنسية، يقول لـ "إيلاف": "يتميز الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك من باقي الرؤساء الفرنسيين السابقين بأنه كانت لديه معرفة كبرى بأزمات الشرق الأوسط، وجمعته علاقات خاصة مع رؤساء وملوك هذه المنطقة، فهو كان على دراية بكل أزمات ومشكلات المنطقة العربية نظرًا إلى ماضيه السياسي، فهو كان رئيسًا للوزراء مرتين في عهد الرئيسين الأسبقين فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران، وبقي عمدة باريس ثمانية عشر عامًا، وهذا ما قربه من بلدان عربية عدة كالعراق ولبنان وسوريا. وكانت لديه علاقات صداقة مع قادة الدول العربية الذين كان يتصل بهم من حين إلى آخر، وهذا ما لم نشهده في عهد خليفيه نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. كما كان صديقًا كبيرًا لرئيس دولة الإمارات الراحل الشيخ زايد وجمعته علاقة خاصة مع العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز".

شيراك ولبنان

وقفت فرنسا في عهد شيراك إلى جانب لبنان نظرًا إلى علاقات الصداقة التي كانت تربط الرئيس الفرنسي برئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. ربط شيراك عودة العلاقات الديبلوماسية القوية مع سوريا بالملف اللبناني انطلاقًا من قلق فرنسا على استقلال لبنان وسيادته، وهذا ما رأيناه في عام 1996، حين عملت فرنسا على إصدار قرار وقف لإطلاق النار في جنوب لبنان. ووقف شيراك مع السعودية إلى جانب لبنان في دعم الإقتصاد اللبناني ومنعه من الإنهيار بعد الحرب الأهلية، إذ كان من أبرز داعمي إتفاق الطائف. واستضافت باريس في عهده المؤتمرات الإقتصادية الثلاثة لمساعدة لبنان (باريس-1 وباريس-2 وباريس-3).

يعلق مالبرونو: "عكست سياسة فرنسا تجاه لبنان في عهد شيراك قلقًا على استقلال لبنان وسيادته، وهي كانت النظرة التي نقلها له صديقه رفيق الحريري، فهو كان يجتمع به اسبوعيًا في باريس، وسعى شيراك إلى فصل لبنان عن سوريا تدريجًا".

ساءت العلاقات بين باريس ودمشق في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد بسبب عدم التزام النظام السوري الإنسحاب من لبنان مع انسحاب الجيش الإسرائيلي، كما سبق ووعد الأسد شيراك. وبعد اغتيال الحريري في عام 2005، وجهت الرئاسة الفرنسية اصابع الإتهام إلى دمشق وعملت على تطبيق&القرار 1559 الذي طالب القوات الأجنبية بالإنسحاب من لبنان.

يسترجع مالبرونو ذكريات عقد من الزمان، ويقول: "بعد اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، كانت ردة فعل شيراك هي ردة فعل الصديق وليس الرئيس الفرنسي، فهو فقد شقيقًا وهذا ما أوصلنا لاحقًا إلى ردة الفعل الفرنسية تجاه سوريا، وحينها قال شيراك عبارته الشهيرة التي أذكرها في الكتاب الذي أصدرته في عام 2014 بعنوان "طرق دمشق"، حين قال: يجب أن تنال سوريا عقابها، وعليها أن تنسحب من لبنان عسكريًا".

يقول شيراك في إحدى مقابلاته إن علاقته بالحريري بدأت عندما كانت مؤسسات الحريري الخيرية ترسل طلابًا لبنانيين لمتابعة تعليمهم الجامعي في فرنسا، وكان شيراك آنذاك عمدة باريس. يقول مالبرونو: "هي مرحلة الصداقة الكبيرة التي جمعت شيراك بالحريري في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وهنا أستطيع القول إن شيراك ذهب بعيدًا في علاقته بالحريري الذي أصبح صديقه المقرب، وأود القول إن الحريري استطاع أن يقنع شيراك بنظريته حول الإسلام السياسي السني في المنطقة العربية".

&

إقرأ أيضًا
يحظى بتقدير العائلة الملكية والطبقة السياسية
جاك شيراك... الرئيس الذي عشق المغرب وناصر قضاياه

&

&شيراك وسوريا

شهدت العلاقات الفرنسية - السورية في عهد شيراك مدًا وجزرًا، ما لبث أن تحولت كرهاً مع اغتيال الحريري. يقول مالبرونو: "كان شيراك صديق الحريري، وصديقًا ثم عدوًا للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ونجله بشار".

يتابع: "يجب الذكر أن شيراك كان الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في مراسم تشييع الأسد في عام 2000، ولم يكن حضوره من باب الإشادة بالأسد وإنما في مسعى للتقرب من ابنه بشار، والعمل على مساعدته سياسيًا كما كان الحال مع العاهل المغربي محمد السادس عندما تولى مقاليد الحكم في المغرب بعد وفاة الحسن الثاني. لكن بشار الأسد خالف شيراك واستطاع أن يخرج من العباءة الفرنسية، وهو ما أدى بالعلاقات الفرنسية السورية للتحول إلى خيبة أمل، ثم ما لبثت أن حلت الكراهية بعد اغتيال الحريري".

شيراك والعراق

كانت لدى شيراك معرفة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، وهذا ما مكنه من تفادي الوقوع في الخطأ في عام 2003، إذ وقفت فرنسا بوجه الولايات المتحدة وعارضت الحرب الأميركية على العراق.

يعلق مالبرونو: "هذا أهم ما ميز عهد شيراك في المنطقة العربية حتى يومنا هذا، إضافة إلى مشاركة فرنسا في عام 1996 مع إيران وسوريا وإسرائيل في إرساء وقف إطلاق النار في جنوب لبنان".

ومنذ عام 1974، عين شيراك رئيسًا للوزراء واستطاع نسج علاقات صداقة مع العراق في عهد صدام حسين عندما كان صديقًا لفرنسا، واستضافه شيراك في قصره في منطقة الكوريز، ثم ذهب شيراك إلى بغداد في زيارة رسمية.

اعتبر شيراك الحرب الأميركية على العراق في عام 2003 خطأ كبيرًا وتلاعبًا واضحًا بالأدلة. فباريس لم تصدق فرضية امتلاك صدام حسين أسلحة كيميائية، وهذا ما أكدته تقارير الأمم المتحدة بعد عمليات بحث جرت في العراق.

يقول مالبرونو: "في عامي 1997 و1998، تفجرت الأزمة بين العراق والأمم المتحدة حول ضرورة تدمير الأسلحة الكيميائية التي يمتلكها صدام حسين، وأدت فرنسا دورًا مهمًا في تخفيف حدة الموقف الأميركي لأن فرنسا في عهد شيراك كانت ترى أنه يجب البحث عن حل وسط وإشراك وساطات إقليمية لتفادي أي تصعيد عسكري انطلاقًا من معرفة شيراك الواسعة بالمنطقة العربية، فهو كان على دراية بطبيعة التقسيم الطائفي والعرقي للعراق ذات الأقلية السنية في الحكم في بلد أغلبية شعبه من الشيعة والكرد، لكن ذلك لم ينسِه يومًا أن صدام حسين يبقى ديكتاتورًا".

لم يخف شيراك تشاؤمه من ما قد تصل اليه المنطقة العربية بعد الحرب الأميركية على العراق، فأطلق تحذيرًا في عام 2003: "ستكون تداعيات غزو العراق وخيمة في المستقبل".

جاك شيراك: "لقد بدأت العمليات العسكرية في العراق&وتأسف فرنسا على الشروع بها دون الحصول على موافقة الأمم المتحدة، وأمل أن تكون العمليات سريعة وأقل دموية ممكنة، وأن لا تقود إلى كارثة انسانية.&حاولت فرنسا مع دول أخرى العمل على اقناع الأسرة الدولية، بأنه يمكن الوصول إلى نزع سلاح العراق عبر طرق سلمية،&وقد باءت جميع محاولاتنا بالفشل.

وأود أن أحذر من تداعيات وخيمة في المستقبل جراء غزو العراق. ظلت فرنسا دائمًا وفية لمبادئها، منها احترام حقوق الإنسان وعدم تغييب الإنصاف والحوار بين الشعوب واحترام الآخر، وستواصل العمل للتوصل إلى حلول عادلة ودائمة للصراعات في العالم عبر الأمم المتحدة، التي تظل الشرعية الوحيدة في العالم للتوصل إلى السلام في العراق، كما في باقي الدول، ولذلك علينا أن نجتمع مع باقي شركائنا لدراسة التحديات التي تحيط بعالمنا. ويجب على أوروبا &أن تعي اهمية أن تكون لها نظرتها الخاصة للمشاكل في العالم والعمل على دعمها في اطار موثوق".


شيراك والقضية الفلسطينية

نسج شيراك علاقات خاصة برئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، فهو كان داعمًا للقضية الفلسطينية لأن شيراك مثل سياسة فرنسية مستقلة كانت تقول الأشياء على حقيقتها، وتجرأ على عدم دعم السياسة الإسرائيلية أو الأميركية.

يستذكر مالبرونو لقاءات شيراك بعرفات. يقول: "كان عرفات ينادي شيراك (الدكتور)، ولا تغيب عن ذاكرتي زيارة شيراك الشهيرة إلى أحياء القدس الشرقية في عام 1996 حين قال شيراك أربع حقائق لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو، وأطلق صرخة غضب في أحياء القدس الشرقية عندما حاول رجال الأمن الإسرائيليون منع الفلسطينيين من مصافحته والإقتراب منه: "ماذا تريدون؟ أن استقل طائرتي عائدًا إلى بلادي؟ دعوهم فهم لا يمثلون أي خطر".

في 22 من أكتوبر عام 1996، أجرى الرئيس الفرنسي جاك شيراك زيارة رسمية إلى إسرائيل، تجول خلالها في أحياء القدس القديمة، حيث تدخلت قوات الأمن الإسرائيلية لإبعاد الفلسطينيين من التجار الذين تهافتوا لتحية الرئيس الفرنسي، فما كان من شيراك إلى أن توجه إلى قوات الأمن الإسرائيلية غاضبًا: "ماذا تريدون مني؟ أن أستقل طائرتي عائدًا إلى فرنسا؟ هل هذا ما تريدونه؟ دعوهم يذهبون... فهم لا يمثلون خطرًا... وما تقومون به ليس لدواعٍ أمنية وإنما هو تحد واضح .."و انتقل في اليوم الثاني جاك شيراك إلى الأراضي الفلسطينية وكان له استقبالُ الأبطال في رام الله و غزة.

توفي رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات في باريس، وأقام له جاك شيراك مراسم وداع رسمية في قاعدة فيلاكوبراي العسكرية قرب باريس، ووفقًا للأعراف الديبلوماسية لا تقام المراسم الرسمية إلا لرئيس دولة، وعرفات كان آنذاك رئيس السلطة الفلسطينية.

شيراك والخليج

نسج شيراك علاقات صداقة مع قادة وملوك الدول الخليجية منذ كان عمدة بلدية باريس، ومنهم العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض، والشيخ زايد رئيس دولة الإمارات الراحل.

يعلق مالبرونو: "هذه كانت السياسة مع الدول الخليجية، اما سياسة شيراك مع إيران فكانت متأثرة بالسياسة السنية لدول الخليج، التي كانت تربطه بهم علاقات صداقة، لكن على الرغم من ذلك استذكر واقعة في عام 2006 بين شيراك ووزير خارجيته فيليب دوست بلازي الذي كان يؤيد مواقف راديكالية تجاه إيران. قال له شيراك إن إيران هي بلد ذات تاريخ ولا نستطيع التعامل معه كبلد من العالم الثالث".

شيراك والمغرب العربي

كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك مقربًا من العاهل المغربي محمد السادس، وكان بمنزلة القائد والأب الآخر له بعد وفاة الحسن الثاني.

وربطت شيراك بالجزائر علاقات قديمة وحميمة، وزار شيراك الجزائر عام 2003، وتمت استضافته كبطل على الرغم من مشاركته في حرب الجزائر إلى جانب الجيش الفرنسي.
&