كان الطقس جميلاً في مراكش صبيحة يوم الإربعاء 11 يناير من هذا العام. بعد فطور الصباح، إقترح عليّ صديق عاشق مثلي للمدينة الحمراء القيام بجولة في حي الملاح اليهودي، الذي كان الملك محمد السادس قد زاره قبل أيام قليلة بعد إستكمال ترميمه وإصلاح أسواقه ومعالمه التاريخية لتعود له الحياة من جديد، إثر عقود طويلة ظل فيها مهملاً وعلى أسوأ حال.&

&

&

ففي نهاية الستينات، وتحديدًا بعد الهزيمة العسكرية المهينة التي منيّ بها العرب في حرب عام 1967، تكررت الهجمات الإنتقامية على هذا الحي لتجبر أعداداً وفيرة من سكانه الذين طبعوا حياته على مدى قرون طويلة على الهجرة إلى البلدان الأوروبية، وإلى الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً إلى إسرائيل، ولم يتبقَ منهم غير عدد قليل.&

&

&

وفي عام 1983، أطلق على الحي إسم:"حيّ السلام"، إلاّ أن الملك محمد السادس أمر بإعادة الإسم القديم للحي، وتسمية الشوارع والدروب والساحات بأسمائها القديمة التي تعكس تاريخ الجالية اليهودية في مراكش، وما طبع حياتها من تقاليد وطقوس دينية، وغيرها.

&

&

وكان اليهود الكنعانيّون قد قدموا إلى المغرب للمرة الاولى&في القرن الثالث قبل الميلاد، فارين من حرب الإفناء التي شنّها عليهم نبوخذ نصر. ويقول بعض المؤرخين إن إفرائيم، إبن النبي يوسف هو من أسس مدينة إفران القريبة من مدينة فاس.&

&

&

وفي عام 1106، أباح الملك المرابطي علي بن يوسف لليهود دخول مراكش في النهار. أما في الليل فكان محرمًا عليهم ذلك. فإن عثر على أحدهم يستباح دمه. وفي عهد المرابطين، أجبر اليهود أيضًا على ارتداء أزياء داكنة اللون بأكمام مفرطة الطول. وكانوا يضعون على رؤوسهم قلنسوات زرقاء تصل إلى الأذنين.

وتعود هجرات اليهود الثانية إلى المغرب إلى القرون الوسطى، وتحديدًا إلى الفترة التي أعقبت سقوط غرناطة، وخروج العرب المسلمين من شبه الجزيرة الإيبيرية، وأيضا من البرتغال. فقد اعتبرهم المسيحيون الكاثوليكيون حلفاء لهؤلاء. لذا باتوا عرضة لمخاطر جسيمة تهدد وجودهم، وممتلكاتهم، ومصالحهم الإقتصادية.&

وفي المدن المغربية، سميت جميع الأحياء التي استقروا فيها، بـ:"الملاح". ومن هذه الأحياء كان يصدّر الملح إلى البلدان الأوروبية. كما كان يقوم اليهود بتمليح رؤوس المتمردين والثائرين والخارجين عن القانون لتعلق على أسوار المدينة عبرة لمن يفكرون في النسج على منوالهم.&

&

&

وفي عهد الملوك السعديين الذين حكموا المغرب من سنة 1554 إلى سنة 1659، وقاوموا بشدة الغزوات البرتغالية التي هددت مراكش، وفاس، وطنجة، وأصيلة، تحسنت أوضاع اليهود، وأمامهم فتحت الأبواب واسعة ليلعبوا أدوارًا مهمة في الإقتصاد والسياسة.&

فقد تقلدوا مناصب رفيعة في الدولة السعدية. وكانوا مستشارين، وسفراء. كما كانوا يؤنسون الأمراء في قصورهم، وإليهم توكل المهمات الخطيرة والسرية. وانطلاقًا من عام 1557، أصبح حيّ الملاح بمراكش القريب من قصور الأمراء السعديين القلب النابض للمراكش. فيه تتم أكبر المبادلات التجارية، ويباع الحرير، والجواهر، والتوابل. وكان الحي بمثابة مدينة داخل المدينة. به عشرات المعابد والمدارس، وعلى أطرافه المقبرة اليهودية.

برفقة صديقي، اجتزنا الساحة وتوغلنا في حيّ الملاح الذي بدا في الصباح المشمس الدافئ، وقد استعاد رونقه القديم. وفي السوق لمغطى، كانت الحركة نشطة. وكانت روائح التوابل ممتزجة بروائح العطور والأعشاب الطبية والمسك والعنبر. وثمة دروب ضيقة كانت شبه خالية من المارة. هناك بيوت مهملة، مفتوحة الأبواب يغمرها ظلام النسيان. على أبواب البعض منها أسماء العائلات اليهودية التي كانت تسكنها.&

&

&

بين الحين والحين، يبرز أمامنا سيّاح وسائحات يقتفون آثارًا قديمة، ويتشممون روائح الأجداد الأولين. تذكرت إلياس كانيتي الذي زار حي الملاح عام 1954، وعنه كتب فصلاً جميلاً في كتابه البديع :"أصوات مراكش". وقد ذكر أنه رآى يهوديًا له ملامح غوبلس، وزير الدعاية في الفترة النازية، والذين كان من الضالعين في المحرقة التي تعرض لها اليهود خلال الحرب الكونية الثانية.&

كما رأى يهودًا بدوا له شبيهين باليهود في لوحة رامبراندت، الفنان الهولندي الشهير. لكن في ذلك الصباح، لم نرَ إلا عددًا قليلاً من اليهود يصعب تمييزهم عن عرب وبربر مراكش. وخلال جولتنا القصيرة رأينا عجائز بربريات يثرثرن بأصوات عالية. أخريات ساكنات الحركة ينظرن ساهمات وكأنهن فقدن الذاكرة.&

وفي الكنيس اليهودي، الوحيد الذي تبقى، كان الهدوء مخيماً. في الطابق الأرضي قاعة الصلاة، وقاعة لتدريس اللغة العبرية، وأخرى زيّنت جدرانها بصور رجال الدين الذين تركوا بصماتهم على حياة اليهود في حي الملاح. وعلى طاولة في غرفة صغيرة نسخ قديمة من التوراة ومن العهد القديم. قرب باب المدخل مطبخ تعدّ فيه الأطباق التي اشتهر بها يهود المغرب عبر العصور. ومن إحدى القاعات تتعالى موسيقى حزينة تعكس حنين يهود حي الملاح إلى أزمنة غابرة...

&

&

&