«إيلاف» من موسكو: مثلما فعل في 30 سبتمبر 2015، وفاجأ العالم بانطلاقة "العملية العسكرية الروسية" التي استهدفت "داعش" ومعاقل الارهاب في سوريا، وكانت دمشق آنذاك على مشارف السقوط، عاد الرئيس فلاديمير بوتين ليقود انطلاقة عملية التحول الى مسار التسوية السياسية بين الفرقاء السوريين تحت رعاية موسكو وأبرز الدول الاقليمية ذات الصلة. عاد بوتين ليعلن عن بداية النهاية في الحرب ضد "داعش"وجبهة النصرة" وغيرهما من المنظمات الارهابية، بعد نجاح القوات الحكومية السورية، والفصائل الموالية لها، بدعم مباشر استخدمت فيه موسكو أحدث ما في ترسانتها من أسلحة برية وبحرية وجوية، بما أسفر عن استعادة القوات الحكومية لسيطرتها على ما يزيد عن 98% من الاراضي السورية. وها هو بوتين يعود ثالثة ليستضيف القمة الثلاثية التى سبق وجمعته مع نظيريه التركي رجب طيب اردوغان والايراني حسن روحاني، بعد لقاء مع الرئيس السوري بشار الاسد في سوتشي، واتصالات هاتفية مع نظيره الاميركي دونالد ترمب، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وزعماء مصر واسرائيل وغيرهما من بلدان المنطقة، لوضع المبادئ الاساسية التي قال بوتين بوجوب أن تستند اليها التسوية السياسية المنشودة، انطلاقًا من القرار 2254 الصادر عن مجلس الامن، وبقية القرارات والبيانات الصادرة بهذا الشأن، بما يحفظ لسوريا سيادتها واستقلالها ووحدة اراضيها.

 كل هذه اللقاءات والاتصالات، تعيد الى الاذهان ما سبق وأدركه بوتين من ضرورة الاضطلاع بواجب والتزامات الدولة العظمى للحفاظ على مصالحها الوطنية، ومواقعها على خريطة السياسة الدولية، دون التخلي عن الوقوف الى جانب من بقي من حلفائها في المنطقة. وكانت موسكو تجتر أحزانها بعد اسقاط القوات التركيا لمقاتلتها فوق الاجواء السورية في نوفمبر 2015، حين اتخذ قراره بقبول إعتذار أردوغان مقدمة لاستمالته الى "خطة التسوية"، التي دعا طهران الى الانضمام اليها، ما ساهم لاحقًا في الاتفاق حول انطلاقة مشاورات الاستانة. ومضى بوتين ليتحسس طريق المصالحة، ويحاول تجاوز ما تناثر عليه من تضاريس وعراقيل، ليعود ويمد يد الود والتعاون مع العربية السعودية التي استضاف عاهلها خادم الحرمين الشريفين في موسكو، في قمة كانت الاولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، ويغض الطرف عن محاولة نظيره الاميركي للعودة الى التصعيد بقصفه لقاعدة الشعيرات الجوية، وهو سرعان ما أسفر عن "تهدئة" و"توافق في الرؤى"، ساهما في اختزال مساحات الخلاف بين فرقاء الامس، والتوصل الى قرار التوقف عن دعم وتمويل فصائل المعارضة المسلحة، وظهور مناطق خفض التصعيد في سوريا، وما واكب ذلك من تحركات ايجابية على مختلف الاصعدة.

ومن هذا المنظور يمكن تناول ما سوف تشهده الساحتان الاقليمية والدولية من تحركات يبدأها اليوم (الخميس) المبعوث الاممي ستيفان دى ميستورا بزيارة لموسكو يلتقي خلالها كلاً من وزير الخارجية سيرجى لافروف، والدفاع سيرجى شويجو في إطار مشاوراته للاعداد لعقد الجولة الثامنة من مباحثات جنيف، وجولات أخرى قال انها تستهدف بحث المسائل المتعلقة بمؤتمر الحوار الوطني السوري، على ضوء ما تحقق في مؤتمر المعارضة السورية في الرياض الذي اجتمع من اجل التشاور حول تشكيل "وفد معارض قوي بارع"، وبما يسمح بإجراء "مفاوضات حقيقية" انطلاقا من القرار 2254، على حد قول ميستورا. وفي هذا الشأن تحديدا يتوقف المراقبون في موسكو عند نجاح الرئيس بوتين في الحد من فورة غضب، وما وصفه البعض بـ"شطحات" الرئيس التركي بشأن إصراره على طلب إستبعاد الاكراد من دعوة المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي، والذي من المقرر عقده في مطلع ديسمبر المقبل. وكان أردوغان حرص في كلمته التي القاها في المؤتمر الصحفي المشترك في ختام قمة سوتشي على الاشارة على نحو غير مباشر، الى حقيقة موقفه من هذا الفصيل الذي تتفق موسكو وواشنطن وآخرون على قيمته وأهميته، وهم الاكراد السوريون ، حيث وصفهم بـ"الارهابيين"، الذين يستحيل العيش والعمل معهم تحت سقف واحد".

 ولعل ما صدر عن الزعماء الثلاثة بوتين واردوغان وروحاني من بيانات وتصريحات ، ورغم التباين الذي يتراءى على البعد بين بعض أطيافها وألوانها، يتفق في مضمونه مع رؤى زعماء المنطقة والعالم من حيث اهمية تجاوز الخلافات ، والانصراف إلى توسيع مساحات الاتفاق حول حتمية مساعدة سوريا في أن تنهض من كبوتها وتداوي جراحها، وتنصرف الى إعادة بنيتها التحتية واقتصادها بما يسمح اولا بسرعة عودة النازحين واللاجئين، والتفرغ لاحقًا للتنمية، وقبل هذا وذاك تهيئة الظروف المناسبة لتنفيذ مقررات الشرعية الدولية التي تنص في الشأن السوري على اعداد الدستور الجديد وإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية على أساس هذا الدستور، والتحول الى المرحلة الانتقالية، دون التوقف عند ما لا يزال البعض من رموز المعارضة ينادي به ويصر عليه بشأن المطالبة برحيل الرئيس الاسد، وهو ما تراجع عنه الكثيرون من اللاعبين الخارجيين الرئيسيين في الساحتين الاقليمية والدولية. وحتى هذا الحين، يتوقف المراقبون بالكثير من الاهتمام عند مناشدة بوتين الاطراف الاقليمية والدولية من أجل مساندة سوريا ومساعدتها في جهودها من اجل اعادة بناء الدولة، والتركيز على مد يد العون في مجالات الدعم الانساني وازالة الالغام وترميم الاثار من خلال حملة شاملة، دون تناسي المهمة الاساسية التي تظل شاخصة بكل قامتها، وهي اجتثاث جذور الارهاب في المنطقة والعالم ، وملاحقة فلوله واليقظة امام ما نشهده من محاولات فرار الكثيرين من رموزه ونشطائه الى بلدان ومناطق مجاورة تعيد الى الاذهان ما سبق وشهدته منطقة الشرق الاوسط في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بعد انتهاء الحرب في افغانستان وبعد انسحاب القوات السوفيتية هناك.