إيلاف من بيروت: أرخت المتحركات السياسية والعسكرية بظلالها على المنطقة برمتها منذ الاجتياح الأميركي للعراق، مرورًا بزلزال الربيع العربي، وصولًا إلى ظهور تنظيم داعش في سوريا والعراق الذي ساهم بشكل مباشر في تمزيق الخرائط وإعادة رسم الجغرافيا وتوزيع الديموغرافيا ضمن منطقة شديدة التعقيد والحساسية، فضلًا عن عمليات خارجية، ساهمت في إحداث تغييرات جذرية في غير مكان ولا تزال، الأمر الذي دفع العالم برمته إلى إعادة ترتيب أولوياته انطلاقًا من هذا التهديد المستجد.

ضمن هذا المشهد، برزت المعاناة الكبرى لبعض الأقليات المتوزعة على خطوط النار في سوريا والعراق، كالأيزيديين والأشوريين والشبك الذين لجأت أغلبيتهم إلى الهجرة نحو مناطق آمنة، فيما عمد آخرون إلى حمل السلاح وحماية مدنهم وقراهم من تهديد داعش.

 

إحدى الكنائس التي دمرت في قرقوش

 

داعش سيطر على قرقوش التي تعرف أيضًا باسم الحمدانية وبغديدة، وهي إحدى أهم البلدات المسيحية في العراق، بعد هجوم شرس في يونيو 2014، وتمكن أيضًا من الاستيلاء على مدينة الموصل إضافة إلى مناطق سهل نينوى التي يتواجد فيها المسيحيون والايزيديون والشبك، فيما تعرضت مناطق كثيرة للتخريب على أيديهم، فأزالوا الرموز الدينية، وحطموا الأبراج واقتلعوا أجراس الكنائس وصلبانها. كما دمروا واحرقوا منزلًا بعد الآخر، وامتلأت جدران كنيسة "مريم الطاهرة" برسوم لأعلام التنظيم وأسماء عناصره، فيما استخدموا بعض الكنائس مواقع تدرب على إطلاق الرصاص.

اندفاعٌ كبير

 

العميد بهنام عبوش

 

أشرف العميد بهنام عبوش الذي خدم في الجيش العراقي على تأسيس وحدات حماية سهل نينوى (NPU)، وهي مجموعة من المقاتلين الأشوريين الذين تطوعوا لحماية مناطقهم من هجمات داعش، وقد نجحت إلى حد كبير في مهمتها، ولا سيما عقب حصولها على دعم حكومي وأميركي، إضافة إلى إقامة تحالفات مع قوات البيشمركة الكردية والحشد الشعبي وقوات التحالف الدولي الذي يقاتل داعش.

 

 

يتحدث عبوش، ضمن وثائقي يؤرخ تجربة الوحدات، عن بداية التأسيس، وكيفية الحصول على المساعدات والتمويل، إضافة إلى الاندفاع الكبير في الانخراط بالتدريب والمواجهات العسكرية. يقول: "بعدما اتصل بنا عدد كبير من الشباب المسيحيين، طلبنا من بغداد تأسيس معسكر خاص لقوتنا، وهي ارسلت إلينا 50 مليون دينار، لكن هذا المبلغ كان قليلًا، ولم يكن كافيًا لتلبية كل متطلبات المعسكر، لذا اتصلنا بالمسيحيين أصحاب رؤوس الأموال المقيمين في الخارج، وساعدونا لاستكمال المعسكر وتدريب مئات الشبان على القتال وحمل السلاح".

 

عناصر من وحدات حماية سهل نينوى (NPU)

 

أضاف: "بعد تشكيل هذه القوة اتصل بنا عدد كبير من المسيحيين بهدف مساعدتنا ماديًا، أو الالتحاق بصفوف المقاتلين"، مشيرًا إلى تدريب 351 مقاتلًا في معسكر جمجمال على يد مدربين أميركيين وعراقيين في البداية، "ثم انتقلنا إلى حدود القوش وتلسقف".

 

مقاتلون آشوريون تطوعوا لحماية مناطقهم من هجمات داعش



مشاركة حصرية

تمثل الاختبار الأول للوحدات الأشورية في نجاحها بالسيطرة على قرية "بدنة كبير"، وهي ضمن قرى قضاء الحمدانية الواقعة ضمن محور الخازر شرق الموصل، وذلك عبر مشاركة حصرية للمقاتلين المنتمين للوحدات، مع إسناد جوي من طائرات التحالف الدولي.

 

آثار الدمار في إحدى الكنائس جراء هجمات داعش

 

يعرض الوثائقي حجم الدمار الكبير الذي لحق بالبيوت والكنائس جراء هجمات داعش، ويلقي الضوء على التطور المتدرج لوحدات الحماية، وانتقالها السريع إلى لعب دور مهم وفاعل في حماية المناطق وفي المواجهات العسكرية المباشرة، كما يركز على الحماسة والاندفاع الملموس للشبان الأشوريين المنخرطين بشكل كبير في الدفاع عن قضيتهم ووجودهم.

وحدات حماية سهل نينوى منظمة عسكرية تشكلت من الأشوريين في العراق بتاريخ 25 نوفمبر 2014، وذلك عقب قيام تنظيم داعش باحتلال سهل نينوى وتهجير المسيحيين، وقد اعلنت تشكيلها لجنة الجهد العسكري للحركة الديمقراطية الاشورية عبر بيان أكدت فيه الاستعداد للتنسيق مع القوات العسكرية المتواجدة في سهل نينوى والتعاون من أجل تحرير هذه المناطق وعودة النازحين إليها.

 

وحدات حماية سهل نينوى تأسست بتاريخ 25 نوفمبر 2014

 

البيان أشار إلى أن "سقوط الموصل، وبعدها سقوط بلدات سهل نينوى وتلعفر وسنجار نتيجة التقهقر الدراماتيكي لقوى الأمن المتعددة في المحافظة وعدم صمودها وتصديها لهجمات داعش من دون أن تكون قادرة على حمايتهم، وبالتالي النزوح الجماعي لأكثر من مائة وخمسين ألفًا من الموصل ومن بلدات وقرى سهل نينوى، واستباحة ممتلكاتهم ومقتنياتهم ومقدساتهم وتعرضهم للتطهير العرقي والإبادة الجماعية، في واحدة من أسوأ كوارث العصر التي واجهت شعبنا، أستوجب علينا الوقوف والتصدي واتخاذ قرارات جريئة ومناسبة وعدم الاستسلام لهذه الهجمة والأجندة التي تستهدف اقتلاع جذور شعبنا من أرض أبائنا وأجدادنا".

 

عناصر من وحدات حماية سهل نينوى يعتقلون عناصر من تنظيم داعش

 

وأضاف: "شعورًا منا بالمسؤولية التاريخية، نعلن عن البدء بتشكيل قوات محلية باسم وحدات حماية سهل نينوى، والعمل على تهيئتها وتدريبها وتجهيزها وتسليحها لتساهم في الجهد العسكري لتحرير وتطهير وحماية مناطقهم، بعيدًا عن أي تعصب ديني او قومي".

نقطة تجمّع

سهل نينوى هي منطقة جغرافية تابعة لمحافظة نينوى شمال العراق إلى شمال وغرب مدينة الموصل. وتتألف من ثلاثة أقضية هي الحمدانية والشيخان وتلكيف. ويعتبر السهل الموطن التاريخي لمسيحيي العراق، ولا يزال فيها تواجد مسيحي مكثف، إلى جانب تواجد الأيزيديين والتركمان والشبك والعرب.

يتركز متحدثو اللغة السريانية في العراق في هذه المنطقة بشكل خاص، كما هناك تواجد للكنائس العراقية الرئيسة، كالكنيسة الكلدانية الكاثوليكية والكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة السريانية الكاثوليكية وكنيسة المشرق القديمة وكنيسة المشرق الآشورية. تحولت منطقة سهل نينوى إلى نقطة تجمع مسيحيي العراق بعد فرارهم من المناطق الساخنة في بغداد وجنوب ووسط العراق وذلك لأنها المنطقة الوحيدة في العراق ذات الغالبية المسيحية.

تعتبر هذه المناطق من المتنازع عليها بحسب المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005. كما شهدت السنوات الأخيرة دعوات من بعض الساسة بإقامة منطقة حكم ذاتي أو محافظة خاصة بالأقليات في هذه المنطقة، خصوصًا بعد تزايد حدة الهجمات عليهم في مدن عراقية أخرى.

يذكر أن المسيحية هي ثاني أكبر الديانات في العراق من حيث عدد الأتباع بعد الإسلام، وهي ديانة مُعترَف بها حسب الدستور العراقي، وقد احتفظت، على خلاف سائر الدول العربية، بطابعها الأصلي، فبقيت مسيحية سريانية ولم تتعرب بنسب كبيرة كما حصل في بلاد الشام ومصر، وإن كان معظم أتباع هذه الكنائس يجيدون العربية حاليًا كلغة تخاطب يومي، ولا سيما في المدن الكبرى.

تعود هجرة مسيحيي العراق إلى بداية القرن العشرين بسبب مجزرة سميل التي دفعت عشرات الآلاف إلى النزوح نحو سوريا، ثم عادت ظاهرة الهجرة في منتصف القرن العشرين نتيجة عوامل اقتصادية واجتماعية، خصوصًا بعد حصار العراق وحرب الخليج الثانية، إلا أن وتيرتها تسارعت بشكل كبير في أعقاب غزو العراق عام 2003.