إثر انطلاق حملة "MeToo" في أكتوبر/تشرين الأول 2017 بدعوة من الممثلة الأمريكية أليسا ميلانو، بدا أن النساء أصبحن أكثر جرأة على مواجهة الرجال المستفيدين والمستغلين لمواقع القوة والسلطة التي وصلوا لها.

بعدها بأشهر، وجهت ممثلات وأكاديميات وكاتبات فرنسيات رسالة حذرن فيها من نزعة "التزمّت" التي اندلعت شرارتها إثر حملة " MeToo". لكن الممثلة كاترين دينوف - إحدى الموقعات على الرسالة - قالت لاحقا إنها تعتذر إن كانت قد أساءت لضحايا هذه الأعمال المهينة.

عن هذه الحملة التي حافظت على زخمها طوال الأشهر الأربعة الماضية، تسعى بي بي سي عربي لمعرفة آراء نساء عربيات عشن ضمن سياقات اجتماعية وثقافية متنوعة لكل خصوصيتها.

أسماء الغول كاتبة فلسطينية مقيمة في فرنسا كتبت لبي بي سي عربي عن موقفها من الحملة وردود الفعل عليها. تسأل أسماء: "ماذا عن النساء المطحونات اللواتي يصمتن في حال انتهاك أجسادهن داخل أسرهن أو في العمل أو في ظروف حرب وصراعات ولا يكتبن شيئا، بل يراقبن بصمت أو لم يسمعن عن "الهاشتاغ"؟

قبل عقد من الزمان كنت أحضر مؤتمراً صحافياً في واشنطن العاصمة وكانت ضيفته صحافية أمريكية تحدثت عن تجربة سببت لها الكثير من الأذى حين تحرش بها أحد زملائها في بيئة العمل، ونصحت بقية النساء بألا يسكتن عن التحرش وإلا سيكون نوع من التواطؤ على ذواتهن، وقد كان ذلك المؤتمر خلال برنامج سنوي لصحافيين تنظمه وزارة الخارجية الأمريكية.

أغلب الحضور من النساء والصحافيات القادمات من الدول العربية والأفريقية، كنا نستمع باهتمام إلى حديثها، ولكنه اهتمام يشوبه نوع من الانفصام ربما داخلي على الأقل، وكأن "العالم الثالث" يستمع إلى آخر ما توصل إليه "العالم الأول". وهذه المرة ليس في فنون الصحافة أو التكنولوجيا بل في التعامل الشخصي مع قضية التحرش، كأنك تشاهد فيلماً غربيا جميلا ولكنه لن يكون جزءا من حياتك أو واقعك.

ريس ويزرسبون وإيفا لونغوريا وسلمى حايك وأشلي جود
Getty Images
خلال حفل جوائز غولدن غلوب هذا العام، ارتدت عدد من نجمات السينما ملابس سوداء دعما لحركة "حان الوقت" التي تلت حملة "أنا أيضا". في الصورة تظهر ريس ويزرسبون (يسار) وإيفا لونغوريا وسلمى حايك وأشلي جود.

ثمن فضح المتحرش

من الصعب تجاهل أن التحرش آفة منتشرة في المجتمعات الشرقية ومسكوت عنها، ولكن ما لن تعرفه تلك الصحافية التي تشجع على فضح المتحرش أن هذه المجتمعات ستحول المرأة إلى ضحية للمرة الثانية بشكل أشد ضراوة من التحرش ذاته في حال فضحت المتحرش، وسردت تجربتها بالمؤتمرات والندوات؛ ففي لحظات سيتكاتف الذكور في هذا المجتمع مع الذكر المذنب ويساندونه، وفي أحسن الأحوال يعاتبونه لكنهم سيخفون أمره قدر المستطاع. كما ستلوم النساء المرأة التي تعرضت للتحرش باعتبارها لم تستر على نفسها وتسكت، فعلى النساء الصمت دوما إزاء ما يتعرضن لهن، فهذا عالم النساء السري والساكت عن "أخطاء" الرجال الشاذة.

وحين تتحدث نساء هذا المجتمع حول ما يتعرضن له مع بعضهن البعض لا يكون بقصد إيجاد حل بقدر ما هو نوع من طقس نسائي للفضفضة ومن ثم الغفران الجماعي عن هذا النوع من سلوكيات الرجال، لذلك فإن أية امرأة تعرضت للتحرش ولم تمر بهذه الطقوس وفضلت محاسبة الرجل بنفسها، فهي خالفت الطبيعية المجتمعية النسائية التي سرعان ما تنبذها.

خلال المؤتمر وفي التعقيبات على تجربة الصحافية تم تجاهل قضية التحرش وركزت المشاركات على موضوع تمكين النساء في دولهن؛ فكي تحاسب المرأة المتحرش دون أن تكون في خانة الاتهام يجب أولاً أن تتساوى مع الرجل في بيئة مجتمعية تحترم كينونتها ولا تعتبر جسدها تابوه، يُحرم الخوض فيه ولو من منطلق مظلومية وحق.

هل كان "هاشتاغا عنصرياً"؟

بعد عشر سنوات تطورت آلية البوح عن تجارب التحرش من مجرد كونه حديثا في الندوات والمؤتمرات ليصبح وسماً "هاشتاغا" على مواقع التواصل الاجتماعي؛ " MeToo"، "أنا كمان"، "أنا أيضاً"، انتشرت فيه آلاف الحكايات التي سردتها نساء عن تعرضهن لاغتصاب أو تحرش، وكانت البداية مع المشاهير ونجمات هوليوود بعد اتهامات تورط المنتج الأمريكي الشهير هارفي واينستين، في اغتصاب و اعتداء جنسي على عشرات النساء العاملات في مجاليّ الأزياء والفن.

وسرعان ما أصبح هذا الوسم عبارة عن غرفة الكترونية متعصبة للنساء وأجسادهن، فإما أن تكوني بطلة تنتمي لهذا الموطن من النساء الجريحات فتحملين الجنسية كاملة وتتعاطفي مع الضحايا وتشتمين هؤلاء الرجال الذين لا يتحكمون برغباتهم! وربما تكونين ذاتك ضحية أو مجرد زائرة تبحث عن مادة للنميمة، وربما عدوة لهؤلاء النسوة.

لست متأكدة إلى أي حد قد تصل عواقب إلقاء اللوم على المتحرش باعتبار هويته ذكورية وكم يخلق ذلك من فروقات ومزيد من بعد بين عالمي النساء والرجال، فيصبح أي تقارب بينهما درباً مزروعاً بالألغام والشكوك والخوف، ما يجعل تقاليد الفصل بين الجنسين تعيش فترة ازدهارها، كما تكبر عنصرية لصالح النساء ضد الرجال. لكن ما أنا متأكدة منه أنه يحول النساء لمجموعة من الضحايا اللواتي لا قوة لهن إلا إذا شاركن علانية ألمهن الخاص، ووجدن غيرهن من النساء المساندات.

بالنسبة لي، أرى أن الاعتماد على شعبوية فعل التغريد على "الهاشتاغ" ليس حلا على الإطلاق، فالقضية لها عدة أبعاد لا يمكن اختصارها بسرد حكايات الألم، ناهيك عن أن المحتوى أصبح كما أي شيء على "السوشيال ميديا" يحتوي على كذب وانتقام شخصي ومادة للتلصص، على الرغم من أنه كسر خوف العديد من النساء والفتيات وسردن قصصهن المؤلمة ولكن أي نساء وأي فتيات؟

معظمهن ممن يستطعن تحدي أنفسهن وعندهن ذاك الهامش من الخيارات، ويعملن في مجال المجتمع المدني والإعلام والفن أي أن المجال الذي يعتبر فيه التصريح عن الذات علانية جزء من المهنة، ويشجع على القوة الأدبية والبحث عن الحق كامتياز، فالضحية التي تكلمت هي ضحية نخبوية نوعا ما، قادرة على تحمل عقبات البوح بما مرت به. ولكن ماذا عن النساء المطحونات اللواتي يصمتن في حال انتهاك أجسادهن داخل أسرهن أو في العمل أو في ظروف حرب وصراعات ولا يكتبن شيئا، بل يراقبن بصمت أو لم يسمعن عن "الهاشتاغ"، وإذا حدث سينظرن إليه كنوع من الفضيحة الفانتازية التي تضاف إلى مجموع الفضائح للفنانين والفنانات وأخبار المشاهير اللواتي يتابعنها كأنها عالم آخر بعيد عنهن.

وستبقى أسرارهن حكرا على جلسات النساء التفريغية باعتبار أن الكشف عن هذه المحرمات يؤدي بهن إلى جحيم المجتمع؛ هذا المجتمع المليء بفئات معرضة للتحرش كالأطفال والمراهقين، فلا أحد يشتكي لمنظومة تسكت عما يتعلق بالانتهاك الجنسي، وإذا حدث سيتم حلها في إطار عائلتي ضيق بالزواج أو المال أو الانتقام الشخصي.

يد كتب عليها MeToo
BERTRAND GUAY/AFP/Getty Images

لماذا لا تخطب المرأة الرجل؟

إن حل موضوع التحرش يلزمه منظومة ثقافية تتقبل هذه القضايا وتشجع البوح بها عند حدوثها وأن تتصرف الأنثى مع المتحرش من منطلق قوة، ولا يتم معاملة الضحية بفضول واتهام، لذلك لن يكون الوسم والتغريدات سوى خيار نخبوي بآلية شعبوية من الصعب أن تأثر بالعامة من النسوة، فيفضحن المتحرش بهن ويتحدثن عن انتهاك أجسادهن وأماكنهن الحساسة.

تقول نوال السعدواي في كتاب "الجنس عند الأنثى" انه لا توجد امرأة في العالم لم تتعرض للتحرش، وهذه النتيجة غريبة بمقدار ما هي ليست غريبة أيضاً، فأحيانا تعتقد أن التحرش يقتصر على مجتمعات بعينها؛ يغلب عليها الكبت وتحريم الاختلاط، وليست غريبةً في الوقت ذاته لأنه يتم النظر إلى المرأة في كل العالم أنها الكائن الأضعف.

وهذا الضعف جزء كبير منه ليس فقط النظرة التقليدية إلى جسد المرأة، بل سببه أيضا هو القوامة العاطفية للرجل على المرأة اجتماعياً في جميع البيئات الغربية أو الشرقية، فالرجل يخطب المرأة وبالتالي هو الأقدر على تقييمها واعتبارها تصلح أولا كزوجة، مما يجعل المجتمع يعطي الرجل الحق في اختبار النساء جسديا وعاطفيا وأخلاقيا، واختيار من يريدها وإبداء الإعجاب بكل جرأة دون أن يكون ذلك عيباً فيه.

أما المرأة مجرد الطرف الآخر المتلقي، التي يُأخذ رأيها، لكنها لا تختار بل يتم اختيارها، ولا تتقدم لرجل يعجبها، وإذا فعلت ذلك يكون فعلاً شاذاً. كذلك في الحب من الصعب أن تبادر وتبدي إعجابها بالرجل، وإذا فعلت يكون الأمر غير طبيعي وغير مهذب أو بالعامية "رامية حالها". وهذه الأحكام المسبقة على أفعالها وقياسها على قوالب جاهزة يجعلها الطرف الذي ينتظر ويتلقى ويسكت حتى يتكلم الآخر الذي من حقه كل شيء حتى لو كانت مستقلة ماديا واجتماعيا.

وبذلك يجوز للرجل ما لا يجوز لغيره وحجته أنه يريد أن يختار زوجة أو يقيم امرأة ما بغرض شريف وهكذا تقضي المرأة حياتها لتثبت أنها تستحق ذلك الغرض الشريف، ويصبح من حقه ضمنياً أن يرسل أو يقوم بالمناسب لتحقيق تلك القوامة على المرأة.

ومن هنا ستمرر المرأة العديد من السلوكيات المتحرشة دون أن تتعرف على الخيط الرفيع بين إبداء الإعجاب والتحرش، وقد يحدث العكس أن يتم تصنيف كل سلوك أنه تحرش رغم أنه قد لا يكون كذلك، في حين أن الحل يكمن بالمساواة في لعب هذه الأدوار العاطفية بين الرجل والمرأة، كي لا يكون هناك طرف متركز عليه كل الفعل وما يشوب ذلك الفعل من أخطاء وذنوب وانتهاكات.

الفارسة على حصان أبيض

وربما بسبب تلك التعقيدات يوجد توجه تدريجي من قبل الشباب والشابات نحو استخدام مواقع التعارف الالكترونية التي انتشرت مؤخرا، فيضمن كل طرف أن الآخر موجود لهدف عاطفي، دون عذابات وتأويلات الحب الكلاسيكي أو الغزل الأول الذي ستحيطه الكثير من الشكوك والمخاوف في وقت أصبح فيه التحسس نحو الحقوق والجندرية عائقا بدل أن يكون عاملاً مسانداً ليفهم كل من الرجل أو المرأة الآخر.

امراة تحمل لوحة عليها: انتهى زمن الصمت
Stephanie Keith/Getty Images

إن الإرث الإنساني لحكايات الحب في الغرب والشرق جعل عدم المساواة في الأدوار العاطفية أمراً بديهياً؛ فماذا لو كانت ساندريلا هي الرجل الذي يتأخر بعد أن تدق الساعة وقت منتصف الليل فيركض قبل أن ينقلب السحر ويعود إلى هيئته الأولى، ليفلت منه حذاؤه وتمر الأميرة لتقيس الحذاء على أقدام رجال القرية حتى تجد حبيبها المنشود سندريلا! لماذا يشعر الرجل إذا قرأ عبارات كهذه بالإهانة؟ ولماذا لا يتخيل أن يكون شهريار هو من يروي حكايات ألف ليلة وليلة بدلاً عن شهرزاد؟ أو تكون الفارسة على الحصان الأبيض هي عبلة التي وقعت في حب عنترة، أو ليلى التي تُشّعِر الحب لقيس بن الملوح؟

إن المساواة العاطفية في القص الشعبي والتراث ومن ثم انتقالها إلى الحياة اليومية وقدرة المرأة على إبداء إعجابها بالرجل دون اتهامها أو تطلب يده لهي الخطوة الأولى كي تقوى المرأة عاطفياً، ولا يكون كل الحمل على الرجل الذي يقيّم الطرف الآخر فيمنحه النعيم أو الجحيم بالتقرب منها واعتبارها تصلح شريكة حياته أم لا، ومن هنا يصبح من الطبيعي تأويل تصرفاته جنسانيا وعاطفياً بل يصبح المتهم الأول في التحرش، ومستحق لما آل إليه وسم "مي تو".

لذلك لا أرى الحل أن يتم التغريد بقصص التحرش والاغتصاب بقدر أهمية منعها من الأساس، ومنح قوة للمرأة وأجيال كاملة سيصبحن نساء عما قريب عبر العيش في بيئة لا تطمع بها أو تعطي حق تقييمها لرجل أو تعتبر دورها الصمت والتلقي. ففي كل المجتمعات تنتظر المرأة من الرجل أن يطلب يدها وهذا يجعلها بالكامل مسلوبة إلى فكرة انتظار العريس وارتداء الفستان الأبيض، وأسطرة فارس الأحلام حتى في برامج الواقع الأمريكية التي يختار العازب الوسيم عروسه من بين العشرات اللواتي يتنافسن عليه أمام الكاميرات.

وبطبيعة الحال ليس معنى هذا الحديث انضمام النساء إلى قائمة المتحرشين، فلا أحد يطلب المساواة بالانتهاكات، بل المساواة مطلوبة في الحياة الاجتماعية والعاطفية كي لا يعطي المجتمع الرجل دورا يسهل فيه التنمر على المرأة بحجة العاطفة أو الزواج أو لمجرد كونه رجلا وهي امرأة "الحلقة الأضعف".

لذلك فأنا أرفض الحساسية الشديدة التي تفرضها الحقوقيات من مؤيدات الوسم اتجاه جسد المرأة باعتباره محرما من المحرمات، كما أرفض التوجه المقابل الذي يعتبر هذا الوسم "متزمتا" ولا يوجد مشكلة من محاولة إغواء الرجل للمرأة وحقه في مغازلتها، فهنا يسلمن بأن المرأة متلقية عاطفياً طوال الوقت وبالتالي لا مانع من دفع الأثمان للرجل المسكين الذي لا يقاوم النساء!

إن الحديث باعتبار التحرش محدد لهوية المرأة كونه قضية حياتها أو بطولتها مبالغ فيه، بل يجب التشجيع على أن تدافع عن نفسها وجسدها ضمن صيرورة مجتمعية وكينونتها كإنسانة متساوية الحقوق والأدوار، وتعرف جيدا أن تتصرف في ذات اللحظة، وليس التعامل معها كما تعامل معها المتحرش أنها الطرف الأضعف، فإن صحة العلاقة بين الطرفين لا يجب أن يشوبها شيء من الخوف أو الاتهامات والأحكام المسبقة نتيجة تطور تاريخ آلية البوح النسوي وإعلاء الصوت في اتهام الرجل من المؤتمرات إلى وسائل التواصل الاجتماعي، كما ولا يجب ترك الساحة كي يلعب الرجل وحده الفارس المبادر والمخلص المرأة من حياة العزوبية!