سرد الراحل برنارد لويس محطات من حياته المهنية بصفته مؤرخًا، في مقدمة كتابه "من بابل إلى دراجومان"، وترجمها عادل الطريفي. فماذا يقول فيها؟

إيلاف من لندن: كتب المستشرق الراحل برنارد لويس نبذة مطولة عن سيرته المهنية بصفته مؤرخًا، دسّها في مقدمة كتابه "من بابل إلى دراجومان" المنشور في لندن في عام 2004، وترجمها عادل الطريفي، وزير الثقافة والإعلام السعودي السابق.

هنا

يسرد لويس في نبذته محطات علّامة في حياته المهنية التي بدأت في خريف 1949، مع تبوئه كرسي التاريخ لدراسة الشرقين الأوسط والأدنى في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، ويروي فيها حقبًا زمنية تبدأ مع دراسته المدرسية، وتجهيزه للـ "متزفاه" - الاحتفال الكنسي الذي يتم فيه تقديم الصبي أو البنت لليهود، وما يستدعي ذلك من تعلم العبرية، "والدراسة الجادة للعبرية قادت حتمًا للآرامية، وفي ما بعد بتحول أشبه بالمغامرة نحو العربية"، كما قال. وعلى الرغم من عدم إتقانه الآرامية، فإنه صار أكثر اهتمامًا بالعربية، وأضاف إليها الفارسية والتركية. 

الكتاب الأول

كان "التاريخ" موضوع اهتمام لويس الرئيس. أتاحت له دراسته للشرق الأوسط واللغات الشرقية في مدرسة الدراسات الشرقية أن يسافر في عامي 1937 و1938 إلى الشرق الأوسط، في رحلة حطت رحالها في مصر، حيث انتسب إلى جامعة القاهرة مستمعًا، ثم في فلسطين وسوريا ولبنان. في عام 1938، صار محاضرًا مساعدًا في التاريخ الإسلامي في جامعة لندن. 

في أثناء الحرب الثانية، خدم في الشرق الأوسط. وفي خريف 1949، عاد إلى المنطقة في زيارته الثالثة، "لكن في ذلك العام، وبالنسبة إلى عالم يهودي مهتم بالشرق الأوسط، لم يكن هناك إلا ثلاث دول مفتوحة في المنطقة، هي تركيا وإيران وإسرائيل".

يتكلم لويس في سيرته هذه باقتضاب على أيامه في اسطنبول التي وفرت مكتباتها اهتمامًا خاصًا لمؤرخ مهتم بالشرق الأوسط، خصوصًا محفوظات الخلافة العثمانية. كما يتكلم على منشوراته، يقول: "في البداية، أتى بعض المقالات مطورة من أوراق محاضراتي، ومنشورة في مجلات تعليمية بفضل الجهد الطيب من مكاتب أساتذتي. ثانيًا، وفي هيئة كتاب لأول مرة، كانت أطروحتي للدكتوراه".

كانت هذه الأطروحة تحمل عنوان "أصول الإسماعيلية"، وظهرت ترجمة عربية لها في عام 1947، ولاحقًا فارسية وتركية.

فجوات مفاهيمية

كان إصداره الثاني بعنوان "العرب في التاريخ". ما كان هذا الكتاب تاريخًا مختصرًا للعرب، إنما كان موضوعًا مفاهيميًا عن دور العرب في التاريخ. يقول لويس في سيرته كمؤرخ: "المؤرخ لمنطقة، أو مرحلة زمنية، أو جماعة من الناس، أو حتى موضوعًا، عليه أن يعرف شيئًا من صلب ثقافتها المكتوبة، وهي للمثقف الأديب لا غنى عنها كموجه وقائد".

بحسبه، الاختبار الحقيقي لمعرفة المرء وفهمه لغة أخرى هو قدرته على ترجمة تلك اللغة إلى لغته الأم. ربما يعتقد المرء أنه أمسك بمعنى نص ما، لكنه يجد بعد ذلك في أثناء عملية الترجمة أن فهمه يحمل فجوات هامة.

في عام 1974، انتقل لويس إلى جامعة برينستون، مشرفًا على رسائل الدكتوراه لطلبة الدراسات العليا. في هذه الجامعة، توافر له نوع من المرافق والوسائل التي لا يمكن للجامعات الإنكليزية أن تتحصل عليها ببساطة، وفي مقدمها تحقيق المراجع.

في أيامه في برينستون، وجد متسعًا من الوقت ليصنف موادًا تراكمت عليه، خاصة بسلسلة من الملفات لموضوعات أثارت اهتمامه الخاص، وليعدها للصدور كتبًا، فصدر بعضها: "لغة الإسلام السياسي"، و"التراث الإسلامي - اليهودي"، و"انبعاث تركيا الحديثة"، و"الاكتشاف الإسلامي لأوروبا".

دين وقومية ومجتمع

برأي لويس، "شكلت هذه الكتب جزءًا من موضوعات عريضة واهتمام عميق، فطالما كنت مهتمًا بعلاقات الشرق الأوسط الإسلامي بالمسيحية، وبالغرب في ما بعد، وكذلك التقدم الإسلامي في أوروبا من الشمال الغربي، ثم من الجنوب الشرقي، والاستجابة المسيحية للاحتلال وهجومها المضاد، ولآثار الاصطدام بالتحرك الغربي والحضارة الغربية على مسلمي ومجتمعات الشرق الأوسط، ثم مراحل النهضة في استجابة الشرق - أوسطيين".

تضمن عمل لويس دراسة المتغيرات التي حصلت في النصف الثاني من القرن الماضي في ميادين الدين والقومية والمجتمع، فدرس الاستقبال الجديد للحريات الفردية والوطنية ومحاولة تحقيقها، والتغيير المفاهيمي في مضمون الولاءات القومية والوطنية، وانبعاث الأديان والهويات العرقية والمذهبية، والالتزام الأيديولوجي الذي يصاحبها.
درس لويس كذلك المناهج التأريخية، فقال: "أن نستخدم منهجًا لدراسة تاريخنا، ومنهجًا آخر لدراسة تاريخ الغير أمر بلا صدقية، فالدراسة الجادة للتاريخ لا بد من أن تبنى على مصادر أولية، يجب أن تختبر في أصولها".

احذروا التأريخ!

بحسب سيرته، يتناول لويس مهنة التأريخ بكثير من الحذر. فدراسة أي تاريخ معاصر، بالنسبة إليه، يقدم للمؤرخ مشكلات خاصة، فهناك مصاعب جلية من تشظي المؤلف القديم وتشتته، ومن وثائق ذات جودة من الدرجة الثانية.

كمواز لذلك تقف راهنية الخبرة لدى المؤرخ، والأحداث التي تجري في زمنه، وهذه في المقابل تأتي بخطر آخر، "هو الالتزامات والشؤون الشخصية للمؤرخ، فنحن كلنا أبناء زماننا ومكاننا: بولاءاتنا، بخيبات آمالنا المسبقة، والتي يحددها الوطن والعرق والجنس والدين والأيديولوجيا".

يعلن لويس صراحة التزامه رؤية أخرى: "على المؤرخ دين لنفسه ولقرائه، بالمحاولة بأفضل إمكاناته أن يكون موضوعيًا، أو أن يكون في أقل تقدير عادلًا، وأن يكون واعيًا بالتزاماته واهتماماته". 

برأيه، ليس هناك مختص بالشرق الأوسط، ولا حتى في المصريات. وليس هناك خبير آسيوي قادر على أن يتجاهل حس المعاصرة، وأي دارس لتطور الحضارات يجب أن يكرس التفكير في محددات موضوعه وخصائصه العامة. كما يتوجب على كل كاتب أو مدرس للتاريخ من وقت إلى آخر أن يعيد اكتشاف النتائج الكبيرة للعملية التاريخية، ولو فعلها في تفكيره.