في نهاية شهر نيسان (أبريل) الماضي، وصل السفير الأوكراني لدى الخرطوم والمقيم حاليا في القاهرة، ميكولا نارهوني، إلى بورتسودان حيث التقى عددا من كبار المسؤولين في الحكومة السودانية، وأشرف بنفسه على توزيع آلاف الأطنان من المساعدات الغذائية للمتضررين من الحرب التي قدمتها بلاده إلى السودان.

ولم تكد تمر أيام قلائل، حتى سارع مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، بزيارة المدينة الساحلية، والتقى أيضا بكبار المسؤولين الحكوميين، وأعلن اعترافه بشرعية مجلس السيادة الذي يسيطر عليه الجيش كما أبدى استعداد بلاده للتعاون مع السودان في كافة المجالات.

"مقاتلون على الأرض"

لقاء سابق بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وحميدتي
Getty Images
لقاء سابق بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وحميدتي

هذه الزيارات الروسية والأوكرانية إلى السودان لم تكن الأولى منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع قبل أكثر من عام.

فقد سبقتها زيارات سرية وأخرى علنية في ظل تسابق محموم بين موسكو وكييف لإيجاد موطئ قدم لهما في السودان.

بل إن تقارير إعلامية كشفت عن مشاركة جنود من الدولتين في جبهات القتال السودانية وخاصة في مدينة أمدرمان الاستراتيجية.

وطبقا لتلك التقارير فإن نخبة من القوات الخاصة الأوكرانية شاركت في عمليات عسكرية في أمدرمان دعما للجيش، فيما شارك مقاتلون يتبعون لفاغنر إلى جانب قوات الدعم السريع.

وأكد شهود عيان تحدثوا لبي بي سي هذه التقارير، إذ قال شاهد عيان يقطن في مدينة أبوروف وهي منطقة على النيل في أمدرمان إنه شاهد جنودا ذوي بشرة بيضاء يقاتلون مع الجيش.

وأضاف : "في أحد الصباحات الباكرة من شهر آب (أغسطس) الماضي شاهدت جنودا أجانب وهم يسيرون مع وحدة عسكرية مع الجيش علي الضفة الغربية في النيل.. لمحتهم وهم يحملون أسلحة متطورة ويقومون بتوجيه أفراد الوحدة المتحركة".

وشهدت المنطقة اشتباكات عنيفة بين الجيش وقوات الدعم السريع خلال تلك الفترة، وتمكن الجيش الآن من إعادة السيطرة عليها.

أما الطالب الجامعي الذي يقطن في مدينة امبدة بغرب أمدرمان، فقد أكد لي أنه شاهد أفرادا من مجموعة فاغنر داخل أحد المباني السكنية مع عناصر من قوات الدعم السريع.

ومضي يقول: "عند خروجي من المنزل في الحي الذي اقطن فيه وهو تحت سيطرة قوات الدعم السريع جنودا بيض وهم يجلسون داخل أحد المنازل مع قوات الدعم السريع.. كان أحدهم يضع علامة فاغنر التي اعرفها جيدا.. وقبل أن يكتشفني أحد هرولت جاريا.. وعرفت لاحقا أن الكثير من الناس يتحدثون عن وجود هؤلاء الناس داخل الحي".

وطبقا لتقارير الأمم المتحدة فإن الحرب في السودان أدت إلى مقتل 14000 شخص وأجبرت أكثر من مليوني شخص على مغادرة مناطقهم، هذا فضلا عن الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية للبلاد.

مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف في حديث مع عبد الفتاح البرهان
Getty Images
مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف في حديث مع عبد الفتاح البرهان

"علاقات سابقة"

غير أن السفير الاوكراني في الخرطوم لم يؤكد أو ينفي مشاركة قوات من بلاده في الحرب المستمرة في السودان، وقال لبي بي سي خلال تدشين إيصال المساعدات الغذائية في مدينة بورتسودان: "روسيا هي التي تسببت في الحرب في بلادنا، وبالتالي أصحبت عدونا الأول وسنحاربها في أي مكان في العالم .. لم نقدم السلاح للسودان لأننا في حاجة للأسلحة، ولكننا سنفعل أي شيء من أجل حماية أمننا القومي".

لم تغلق روسيا سفارتها في الخرطوم بعد بداية الحرب كما فعلت سفارات غربية عدة، بل نقلت أعمالها إلى بورتسودان، وظل السفير يباشر أعماله منها.

وتحتل السفارة موقعا كبيرا في حي المطار، كما تحيط بها حراسة أمنية شديدة التعقيد، وهو ما يشير إلى أن موسكو مازالت متمسكة بمصالحها في السودان.

أما الأمر الأكثر إثارة للملاحظة فهو أن الوفد الروسي الذي التقى بقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان في الآونة الأخيرة كان جله من كبار القادة العسكريين والأمنين، كما كشف موقع "سودان تربيون".

ونقل الموقع عن مصادر ديبلوماسية لم يسمها بأن موسكو عرضت على الخرطوم مساعدات عسكرية نوعية تتطلب وجود عناصر روس على الأرض، بالإضافة إلى بناء قاعدة عسكرية علي ساحل البحر الأحمر.

ومن المفيد الإشارةُ هنا إلى أن الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، وافق علي منح الروس قاعدة فلمنجو العسكرية علي ساحل البحر الأحمر لإقامة القاعدة العسكرية فيها، وبعد سقوطه وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك لم تمنح روسيا القاعدة وقالت الحكومة الانتقالية إن مثل هذا القرار سيتخذ عبر برلمان منتخب، ولم تيأس موسكو وأعادت طلبها بإنشاء القاعدة خلال زيارة قام بها وزير خارجيتها سيرغي لافروف إلى الخرطوم قبل اشهر قليلة من بداية الحرب.

وعندما هاجمت روسيا أوكرانيا في فبراير/شباط قبل عامين، وبينما كان العالم كله يراقب الموقف عن كثب، كان قائد قوات الدعم السريع، ونائب رئيس مجلس السيادة وقتها، الفريق محمد حمدان دقلو في روسيا في زيارة كانت في توقيت غريب.

وأطلق حميدتي من موسكو تصريحاته التي أثارت جدلا واسعا حينها عندما قال إن الحكومة السودانية تقف إلى جانب روسيا في حماية أراضيها وسيادتها.

وتربط حميدتي علاقات وثيقة مع الحكومة الروسية وظل يكيل المدح لروسيا ويعتبرها حليفا استراتيجيا، ومنذ دخوله في الحرب مع الجيش لم تصدر منه تصريحات معادية لروسيا، بل أكد لي خلال حوار أجريته معه في مدينة الجنينة بغرب دارفور، وقبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب، بأنه يتطلع إلى تطوير علاقاته مع موسكو وتوسيعها في كل المجالات.

كما تقول مصادر إعلامية عدة إن فاغنر تقدم الدعم العسكري والتدريب لقوات الدعم السريع مقابل حصولها على الذهب الذي تحصل عليه قوات الدعم السريع الذي تعمل في التنقيب فيه في عدة مواقع في السودان.

وظل حميدتي ينفي هذه العلاقة مرارا وتكرارا.

 السفير الاوكراني في الخرطوم لم يؤكد أو ينفي مشاركة قوات من بلاده في الحرب المستمرة في السودان
Getty Images
السفير الاوكراني في الخرطوم لم يؤكد أو ينفي مشاركة قوات من بلاده في الحرب المستمرة في السودان

"علاقة ملتبسة"

ويبدو الأمر ملتبسا ومعقدا بالنسبة للعلاقة التي تربط روسيا والجيش السوداني، وتربطها في الوقت ذاته مع قوات الدعم السريع.

وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ في الجامعات السودانية عبد الله يعقوب إن موسكو تحاول اللعب على المتناقضات في المشهد السوداني الذي أفرزته الحرب الحالية.

وقال لبي بي سي "موسكو تدرك جيدا أهمية الموقع الاستراتيجي للسودان وموانئه علي ساحل البحر الأحمر وأيضا الثروات المعدنية مثل الذهب.. هي لا تريد ان تفقد أيا من الحليفين سواء الجيش او قوات الدعم السريع.. وهي ما تزال تدرس الأوضاع وتراقبها عن كثب، وبالتالي ما تزال علاقاتها مستمرة مع الطرفين العدوين".

وبالنسبة للمخاوف من أن يتحول السودان ساحة حرب أخرى بين روسيا وأوكرانيا يرى يعقوب أن هذه المخاوف "جدية للغاية ويجب أخذها في عين الاعتبار".

ومضي يقول: "السودان أصبح الآن ساحة حقيقية لحروب بالوكالة لدول وجهات اجنبية، كثير من دول الجوار متورطة في الحرب السودانية.. هنالك أيضا الإمارات العربية المتحدة وإيران.. والآن تدخلت روسيا وأوكرانيا في ساحات القتال.. بل أرسلوا جنودا على الأرض.. إذا لم يتم تدارك الامر ووضع حد للحرب.. فإننا مقبلون على سيناريو تقسيم السودان، بل ربما تفتيته في ظل تباين وتضارب مصالح هذه الدول والجهات".