فهمي هويدي

لا أحد يصدق أن البلد الذي دعا المواطنين فيه إلى المساهمة في الأزمة الاقتصادية، أن «يصبَّح» الواحد منهم على مصر بجنيه كما نصحوا بأن يكتفوا بوجبتين فقط في اليوم بدلًا من ثلاث، هذا البلد هو ذاته الذي قرر أن يضخ عشرات إن لم يكن مئات الملايين من الجنيهات في مشروع إعلامي لا لزوم له. أتحدث عن مشروع شبكة القنوات الجديدة التي أطلقت يوم السبت الماضي (١٤/١)، وسبقتها حملة دعائية هائلة وباذخة، أغرقت أغلب الشوارع الرئيسية في العاصمة باللافتات وملأت بالإعلانات صفحات وصفحات نشرتها الصحف اليومية.

سبقني آخرون لم يستطيعوا أن يخفوا دهشتهم إزاء تلك الخطوة المحيرة، ليس فقط لأن للدولة منابرها التلفزيونية التي تخضع بالكامل لنفوذها وتوجيهها المباشر، ولكن أيضا لأن الفضاء المصري متخم بالقنوات الخاصة الخاضعة بدورها للتوجيه غير المباشر. إذ لم تجرؤ واحدة على استضافة شخص غير مرضي عنه (إلغاء بث الحوار مع المستشار هشام جنينة نموذج يشهد بذلك) ناهيك عن أن يكون الضيف معارضًا أو صاحب صوت آخر.

الخلاصة أنه ليس هناك سبب واحد مقنع يبرر إضافة شبكة جديدة في وجود شبكات الإعلام الرسمي والخاص (شبه الرسمي). وليس مفهومًا أن تحرص الجهات السيادية على أن تتولى بنفسها إطلاق القنوات الجديدة، في حين أن لها اليد الطولى في توجيه القنوات الحكومية والخاصة، طوال السنوات الأخيرة. وتلك معلومات لم يعد فيها سر، بعد أن تواتر ذكرها في كتابات المعلقين الذين تناولوا الموضوع في الأسبوع الماضي. أما المدهش والمحير حقًا فهو الشائعات المثيرة التي يتداولها الوسط الإعلامي عن ميزانية المشروع الجديد، التي من الواضح أنها مفتوحة ومتجاوزة كل الحدود المتعارف عليها، بدءًا من الأجور المبالغ فيها للإعلاميين ومقدمي البرامج وانتهاء بالتجهيزات التي أريد لها أن تتفوق على كل ما هو موجود بالسوق. وتتضاعف الدهشة إذا علمنا أن ذلك يحدث بشكل مواز مع الحديث المستمر عن أهمية التقشف وتقليص الخدمات بدعوى ندرة الموارد.

لقد غابت الشفافية عن المشروع، الأمر الذي فتح الباب لأسئلة كثيرة في مقدمتها ما يلي:

< لماذا تلجأ السلطة إلى إطلاق مشروع إعلامي جديد في حين أن لديها جهازًا إعلاميًا عمره نحو ستين سنة، ولماذا لم يوجه عشر معشار ميزانية المشروع الجديد لإعادة الحياة ورفع كفاءة المشروع القائم، الذي يعد «ماسبيرو» رمزًا له.

< ما هي مصادر تمويل المشروع وكيف تقررت وما هي الجهة التي أجرت دراسة جدواه؟

< طبقا للدستور، فإن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام يفترض أن يشرف على الصحف اليومية ومؤسسات الإعلام المرئي الرسمي. ولكل منهما هيئة وطنية خاصة، والأمر الذي يثير السؤال التالي: هل ستخضع الشبكة الجديدة التي تصدرها الجهات السيادية لإشراف الهيئة الوطنية للإعلام المرئي. أم أنها ستظل خارج نطاق إشرافها وستعامل باعتبارها ذات وضع «خاص»؟

< ما هو ترتيب المشروع ضمن أولويات أجندة العمل الوطني في المرحلة الحالية، وهل إنفاق عشرات الملايين عليه هو أفضل توظيف لهذا المبلغ في ظل متطلبات الوقت الراهن؟

ثمة شبه كبير بين مشروع القنوات الجديدة وبين فكرة العاصمة الإدارية التي وصفت بأنها «مشروع عملاق»، والقاسم المشترك بينهما أنهما يستنزفان كمًا هائلاً من الأموال ولا يضيفان جديدًا يذكر. فنحن لسنا بحاجة إلى عاصمة جديدة. بقدر ما إننا لسنا بحاجة إلى قنوات تلفزيونية جديدة. كما أن لدينا ما هو أهم من العاصمة الجديدة، وثمة أوجه أخرى للإنفاق في مجالات الخدمات تتقدم على حكاية القنوات الجديدة، مع ذلك فربما كانت العاصمة الجديدة أفضل حالًا، لأنها تقيم شيئًا قد ينفع الناس في الأرض يومًا ما. أما القنوات الجديدة فإنها تحدث ضجيجًا في الفضاء يسوق لنا وهمًا ولا نرى له طحنًا يذكر.