محمد يونس 

متكئ على عصاه، سار الحاج محمد أبو اسنينه (84 عاما) مسافة طويلة من بيته في البلدة القديمة في مدينة الخليل، إلى الحرم الابراهيمي الشريف، لأداء صلاة الظهر. وعندما وصل، أبلغه الجنود الإسرائيليون المتحصنون في غرف حراسة على مدخل الحرم، بأنه مغلق ليومين (الإثنين والثلثاء) أمام المسلمين، ومفتوح أمام اليهود فقط.

وكانت السلطات الإسرائيلية قسّمت الحرم الإبراهيمي الشريف بين الفلسطينيين والإسرائيليين عقب المجزرة التي ارتكبها مستوطن بحق المصلين في المسجد عام 1994، وسقط فيها 29 مصلياً وأُصيب أكثر من 150 بجروح.

وبموجب التقسيم الجديد، سيطر المستوطنون اليهود على 57 في المئة من الحرم الإبراهيمي البالغة 2040 متراً مربعاً، وعلى الحديقة التي تحيط به. وتغلق السلطات الإسرائيلية الحرم كلياً أمام المسلمين في الأعياد اليهودية، مثل عيد «العرش» أو «المظلة» الحالي وغيره، ويفتح كلياً، بما فيه المساحة المخصصة للمسلمين، أمام المستوطنين.

وقال المدير السابق للحرم منذر أبو الفيلات، إن السلطات الإسرائيلية منحت المستوطنين حق استخدام حصة المسلمين من الحرم في فترات الأعياد اليهودية، ومدتها 10 أيام في السنة، يتم خلالها إغلاق أبواب المسجد أمام المصلين المسلمين. وفي ذات الوقت، كان آلاف المتدينين والمستوطنين يقتحمون باحات المسجد الاقصى المبارك في القدس، ومقام سيدنا يوسف، وهو مسجد قديم، في مدينة نابلس، و5 مزارات ومقامات في قرية كفل حارس في محافظة سلفيت، شمال الضفة الغربية، ويقيمون فيها الصلوات، مُدّعين أنها كنس يهودية.

وصلى المستوطنون والمتدينون أمام بوابات وإسوار المسجد الأقصى، قبل أن يدخلوا إلى باحاته الواسعة التي يعتقدون أنها مقامة على أنقاض «الهيكل الثالث»، ويطالبون بإعادة بنائه فيها.

وتترافق تطلعات اليهود الاستعمارية في المساجد المذكورة مع أطماع استيطانية في الأراضي المحيطة، وفي قلب المدن المقامة فيها.

ففي قلب مدينة الخليل، أقام المستوطنون 4 بؤر استيطانية يقطنها حوالى 400 مستوطن، يحرسهم نحو 1500 جندي.

ولفتح الطريق أمام الحركة اليومية للمستوطنين في الخليل، قسّمت السلطات الإسرائيلية البلدة القديمة إلى 3 أقسام: قسم مفتوح للمستوطنين فقط، ولا يمكن لأهالي الخليل الوصول إليه، مثل شارع الشهداء وأول شارع السهلة وسوق الخضر المركزي وغيره، وقسم ثان يمكن الوصول إليه، لكن عبر بوابات وحواجز مثل الحرم ومنطقته، وقسم ثالث يمكن الوصول إليه من دون قيود.

وبلغ عدد المحال التجارية التي أغلقت في شارع الشهداء والأسواق التي يؤدي إليها 512 محلاً.

وكان المستوطنون، قبل التقسيم، يزورون الحرم الإبراهيمي تحت إشراف دائرة الأوقاف الإسلامية، وذلك في الأوقات الواقعة بين الصلوات. لكن، بعد تقسيم الحرم، أقامت السلطات غرف حراسة عسكرية أمام المسجد، وأصبحت تتحكم في الداخلين إليه والخارجين منه.

والخليل من المدن الفلسطينية القديمة، وفيها مقامات لعدد من الأنبياء، مثل النبي يونس والنبي نوح، إضافة إلى ضريح النبي إبراهيم وزوجته وأضرحة أبنائه وزوجاتهم. وقسّمت إسرائيل مدينة الخليل، بموجب الاتفاق الخاص مع السلطة الفلسطينية، والذي يسمى «بروتوكول الخليل»، إلى منطقتين: (H2) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية وتشكل ثلث مساحة المدينة، وفي القلب منها البلدة العتيقة والحرم الإبراهيمي الشريف، ومنطقة (H1) الخاضعة للسلطة الفلسطينية.

وفي مدينة القدس، التي أعلنتها إسرائيل «عاصمة أبدية»، اتبعت السلطات سياسة استيطانية تقوم على زرع المستوطين في البلدة القديمة التي تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية، وإقامة البؤر الاستيطانية في الأحياء المحيطة بالبلدة القديمة، مثل أحياء الشيخ جراح وجبل الزيتون وسلوان وغيرها، وإقامة حلقة من المستوطنات تحيط بهذه الأحياء كالسوار بالمعصم.

ووفق الإحصاءات الإسرائيلية، فإن عدد المستوطنين اليهود في القدس بلغ أكثر من 300 ألف. وتطالب أحزاب وجماعات ومنظمات إسرائيلية، بعضها مشاركة في الحكومة، بتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً بين المسلمين واليهود، بحيث يصلي كل طرف في المسجد في أوقات الصلاة الخاصة به.

وفي خطوة اعتبرها الفلسطينيون بدء التطبيق الفعلي لهذا التقسيم، أخذت السلطات الإسرائيلية تخرج المصلين المسلمين بعد الصلاة، وتدخل المصلين اليهود في ساعات معينة بين الفجر والظهر. وتطالب منظمات أخرى بهدم المسجد الأقصى وإقامة «الهيكل» على أنقاضه.

واستولى المستوطنون اليهود كلياً على مسجد بلال بن رباح في بيت لحم، الذي يطلقون عليه «قبة راحيل»، وعلى مقام يوسف في نابلس، وعلى مقامات ومزارات قرية كفل حارس.

وأصدر مجلس الأوقاف والشؤون والـمقدسات الإسلامية، والهيئة الإسلامية العليا، ودار الإفتاء الفلسطينية، ودائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس الشريف، أمس، بياناً مشتركاً، حذروا فيه من تكثيف الاقتحامات، واعتبروا أنها غير مسبوقة من حيث الأعداد.

«أخذوا البلاد وبدهم يوخذوا (يريدون أخذ) دور العبادة»، قال الحاج أبو سنينة بمرارة، وهو يعود أدراجه بعد أن حُرم من الصلاة في الحَرم الذي اعتاد الصلاة فيه منذ طفولته. «إنه حكم القوة»، قال وهو يشيح بعصاه ويمضي.

... و يهدد قلب الخليل

بضوء أميركي أخضر، يتوقع أن يعلن «مجلس التخطيط الأعلى في الإدارة المدنية (لجيش الاحتلال)»، الثلثاء المقبل، بناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة، بينها 30 مبنى في المستوطنة القابعة في قلب مدينة الخليل المحتلة وذلك للمرة الأولى منذ 20 عاماً.

وأفادت صحيفة «يديعوت أحرونوت» في صفحتها الأولى أمس بأن الحديث يدور عن بناء مخططات لبناء نحو أربعة آلاف وحدة استيطانية في مختلف مستوطنات الضفة الغربية، سواء تلك في التجمعات الاستيطانية الكبرى التي ابتلعها الجدار الفاصل أو تلك التي بقيت خارجه منتشرة في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية في بلداتها. وأضافت أن رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، الذي يتعرض لانتقادات من قادة المستوطنين بداعي تجميده الاستيطان، سيعلن رسمياً عن هذا البناء المكثف الأسبوع المقبل، مع انتهاء الأعياد اليهودية.

وتابعت الصحيفة أن البناء يأتي نتيجة تفاهمات مع الإدارة الأميركية تقضي بالسماح لإسرائيل بإعلان مخططات بناء مكثف جديدة مرة كل ثلاثة أشهر، بدلاً من بناء عدد أقل مرة كل بضعة أسابيع، وأن واشنطن لم تعد تميّز بين التكتلات الاستيطانية الكبرى التي أجازت البناء فيها وتلك النائية المبعثرة في أعماق الضفة الغربية، «وعليه لن تندّد بمشاريع بناء جديدة بعد أن أعلنت مع تسلمها مهماتها مطلع العام الحالي أن الاستيطان ليس عقبة أمام السلام»، وفق مسؤول كبير تحدثت إليه الصحيفة.

ورحّب قادة المستوطنين «بحذر» بالخبر المسرّب من أوساط نتانياهو، لكنهم جددوا القول إن الامتحان سيكون على أرض الواقع. واعتبر زعيم المستوطنين في الخليل قرار بناء عشرات الوحدات السكنية في المستوطنة اليهودية «تاريخياً» بعد عقدين من تجميد البناء هناك.

مع ذلك لا يكتفي المستوطنون ببناء الوحدات السكنية الجديدة وانتقدوا نتانياهو لعدم تصديقه على شقّ شوارع التفافية للمستوطنين وحدهم، وعدم المصادقة على إقامة منطقة صناعية كبيرة في كبرى المستوطنات في الضفة الغربية.