صفوق الشمري

رحلات العقيلات وأيضا تجار نجد المستقرين خارج نجد في ذلك الوقت أنشأت ثقافة التجارة والعمل في القصيم، وأيضا ثقافة التعليم التي ما زلنا نرى آثارها إلى اليوم

كثير من شعوب الأرض تحتفي وتحتفل برحلاتها ورحالتها التاريخيين، بل أصبح تاريخ الرحلات أحد أعمدة التاريخ في تلك الدول، الدول الأسكندينافية ما زالت تبحث وتنشر تاريخ رحلات الفايكنغ، والبرتغال وإسبانيا ما زالتا تفتخران برحلات الرحالة العظمى مثل فاسكو دا جاما وماجلان، والإسبان ما زالوا يحتفلون بالإيطالي - الإسباني كريستوفر كولمبوس، بل إلى الآن ما زالت البحوث تكتب عن شركة الهندية الشرقية (البريطانية)، هذه الشركة البريطانية التي كانت أشبه بدولة كانت تتاجر بالقطن والحرير والشاي، ولها سلطات احتكارية بريطانية على أغلب المستعمرات البريطانية، كالهند وشرق آسيا، وكانت من القوة أنها تضع تقريبا كل القوانين والعقود التجارية، بل وصلت إلى أنها تملك جيشا خاصا بها وتملك عملة خاصة بها.
في تاريخنا الوطني هناك قصص رائعة شيقة كان من الواجب أن تروى، وهو تاريخ العقيلات ورحلاتهم الرائعة في أرجاء العالم العربي، لم تكن فقط رحلات تجارة وتبادل بضائع، بل كانت رحلات ثقافات ودبلوماسية ومغامرات، للأسف لم تأخذ حقها من الوصف والإعلام، رغم أن آثار هذه الرحلات لها تبعات كبيرة على السعودية حتى وقتنا الحالي، وسأشرح لاحقا كيف أثرت هذه الرحلات على الحالة الاجتماعية حاليا.

منذ صغري وأنا أسمع عن رحلات العقيلات، خصوصا إذا ترعرعت ونشأت مع قصمان، فالأحاديث المحكية سحرية، ربما كنت محظوظا أن أقرب الأصدقاء والعوائل لي كانوا من المذنب الجميلة وأهلها الغاليين وعنيزة، والتي استفدت كثيرا جدا من مخالطتهم، فجمعت صفات وطباع البدو الذي أنا منهم، وصفات القصمان، وكانت معادلة جميلة للغاية إذا عرفت كيف توازنها! 
لكن قبل ذلك لتعريف من لا يعرف العقيلات، وهي جمع لكلمة عقيلي، هم مجموعة تجار من منطقة نجد، خصوصا من منطقة القصيم، لا تجمعهم روابط عائلية أو قبلية ويذهبون في مجموعات للتجارة في بلاد الشام ومصر والعراق وحتى تركيا، فيبيعون ويتاجرون بالإبل والسمن ومنتجات الأنعام، ويستوردون منتجات القهوة والشاي والسكر والملابس وغيرها.
هذه القوافل المستمرة علمت العقيلات فن المخالطة والمفاوضات والاحتكاك بالشعوب الأخرى، ومعرفة عاداتهم والتطور، مما أثر لاحقا على الصعيد الاجتماعي والسياسي، يظلم العقيلات من يقول إنهم فقط تجار، بل هم أثروا في الأحداث المهمة في التاريخ العربي، فقد أسهموا في حفر قناة السويس، ووفروا الدعم اللوجستي وكانوا كأنهم مقاولون من الباطن، من خلال الحفر ونقل الأدوات والمستلزمات على رواحلهم، وأيضا شاركوا في الحروب العربية في تلك الفترة، ونتيجة المعرفة العميقة في البلاد العربية وحسن فن المفاوضات لديهم كانوا أشبه بسفراء أيام بداية الدولة السعودية، مثل العقيلي فوزان السابق الذي كان معتمدا للسعودية في مصر، وشارك في اجتماعات إنشاء الجامعة العربية في مصر، وكان هناك العقيلي سليمان المشيقيح معتمد الملك عبدالعزيز في الشام. أحبذ أن لا أذكر أسماء العقيلات حتى لا أنسى أحدا، لكن الجميع يعرف أسماء زعماء العقيلات ورجالاتهم الكبار.
هناك مجموعة أخرى البعض يضعهم كأنهم فئة من العقيلات والآخرون يفصلونهم ويعطونهم تصنيفا مستقلا، تجار نجد المستقرين بالخارج، فلقد أبدع بعض تجار القصيم وعنيزة في إنشاء إمبراطوريات تجارية في البحرين والكويت وجنوب العراق، ووصلوا الهند مثل البسام والزامل وغيرهم. وحب القصمان للاستكشاف والسفر والترحال أوصلهم لأميركا عندما كان لا أحد في نجد يعرفها تقريبا.

رحلات العقيلات وأيضا تجار نجد المستقرين خارج نجد في ذلك الوقت أنشأت ثقافة التجارة والعمل في القصيم، وأيضا ثقافة التعليم التي ما زلنا نرى آثارها إلى اليوم، فالمعروف لدى العامة حاليا أن أهل القصيم هم أهل تجارة وأهل مفاوضات، وثقافة العمل تبدأ من سن مبكرة لديهم، وأيضا مخالطتهم لعدة ثقافات عربية ودولية، أسست لثقافة التعليم لديهم قبل الآخرين، مما جعل القصمان من أوائل من حصل على الدرجات العلمية العليا، وأهلهم ذلك لتبوؤ كثير من المناصب.
بدون مبالغة رحلات العقيلات والتجار لها دور كبير في جعل القصيم والمجتمع القصيمي على ما هو عليه الآن. يجب أن نذكر شيئا مهما، فبالرغم من استمرار نشاط العقيلات لمئات السنين إلى عام 1948 إلا أنه لم يسجل ولم يشتك أحد في البلاد التي زاروها من التشدد أو نشر الوهابية، بل كانوا محبوبين ومعروفين بحسن تعاملهم، مما يشير إلى أن مصطلح نشر الوهابية والتشدد هو دخيل جاء بعد حركة جهيمان والجهاد الأفغاني.
للأسف لا أرى إنصافا من الإعلام في تغطية العقيلات وهذه الرحلات الرائعة المليئة بالأسرار والقصص والعبر والمغامرات، كم أود من الإخوان في القنوات المحترفة، خصوصا مثل العربية ومجموعة إم بي سي، أن تقدم برامج وثائقية كبيرة عن رحلات العقيلات والتجار، لا شك أن الزميل تركي الدخيل من جيل سمع بعض قصص العقيلات، ولا يتحرج أحد من الموضوع لأنه من نفس المنطقة، ولأن هذا إرث تاريخي للوطن كاملا وليس لمنطقة، ومن الواجب إطلاع الجيل الجديد عليه.