سمير عطا الله

تنبهتُ، متأخراً، أنني سافرت خلال هذا العمر، غرباً وشرقاً، جنوباً وشمالاً، في أنحاء الأرض، بالطائرة والباخرة والقطار والسيارة. والمكان الوحيد الذي لم أسافر فيه هو لبنان. لا أعرف الشمال جيداً. ولا أعرف معظم الجنوب. ولا البقاع. ولا عكار. ولا مرجعيون، أو حاصبيا. ولم أذهب إلى طرابلس إلا في زيارات، أو محاضرات قصيرة، مع أنها ثاني المدن. ولم أذهب مرة إلى جبال الأرز.
تبلغ مساحة لبنان عشرة آلاف كيلومتر مربع، ليس منها كيلومتر واحد بغير جاذبية. وليس من منطقة ليس فيها صديق أو صداقة. ومع هذا فقد كانت وجهة السفر دائماً إلى الخارج. وقد شعرت بخجل عميق عندما سألني الرئيس نبيه بري قبل حين، متى كانت آخر مرة زرت فيها مدينة صور.


يقول المرء لنفسه وهو شاب: أمامي متسع من الوقت. لبنان ليس ذاهباً إلى مكان. ثم نكتشف أن الأرض دارت بنا، وأن لبنان حقاً بقي في مكانه منها، لكن الاهتمامات تغيرت، والذوق تغير، والهمّة أصبحت انتقائية وخاضعة لقانون الأفضليات بعدما كانت تندفع بموجب العفويات.
في الصيف يتواعد اللبنانيون في الجبال أو السواحل من أجل الاستضافة في بيوتهم الريفية، خلافاً لمطاعم بيروت في الشتاء. ولست أحب من الشتاء إلا توفير المسافات. فأنت تلتقي الأصدقاء أنفسهم، وتسمع الأخبار نفسها، وتتناول الوجبة نفسها، من دون أن تمر في محنة السير و«آداب» زحمته.
اتصل بي مضيف من بلدة حاصبيا، وقال لي في شيء من التوبيخ، ألا تريد التعرف على المدينة التي كان خالك قاضي محافظتها قبل ثلاثة أرباع القرن؟ وبدت الذريعة كافية. غير أنني تذكرت ما كان يرويه منح الدبغي صاحب «الهورس شو»، ولاحقاً «السيتي كافيه»، وهو من أهل حاصبيا. كان منح يقول إن جميع القضايا المقدمة أمام المحكمة كانت تنتهي بقصيدة ضاحكة من خالي، يصالح بها الطرفين ويقنعهما بسحب الدعاوى. ورافع أمامه مرة المحامي الشهير إميل لحود، فبدأ مطالعته بالقول: الرجاء من جناب رئيس المحكمة، لا مصالحات ولا طق حنك. بدنا نعيش.