علي محمد فخرو

يوماً بعد يوم تظهر الخبايا، وتنفضح المؤامرات، والأسرار، وتسمع الأحاديث التي دارت في الغرف المغلقة عبر السنين والعقود في طول وعرض بلاد العرب. الذين يشعرون بقرب نهاية حياتهم، أو بوخز ضمائرهم، أو بالعار الذي سيلطخ سمعتهم هنا، وبعد الموت، بدأوا يكتبون مذكراتهم، أو يتحدثون عبر الفضائيات، أو يفاجئوا الجالسين في المؤتمرات.
ما عادت هناك أسرار، إذ نحن في عصر الاعترافات، وقصص المخالفات التي ارتكبت وراء ظهور المواطنين والإعلام، وكل مؤسسات الرقابة المجتمعية الأخرى.
لقد فعل ذلك العرب وغير العرب، المسؤولون الكبار، والمتعاونون الصغار من السياسيين، والاقتصاديين، والعسكريين، والأمنيين، من الجواسيس والأزلام، ومن كبار الشركات، ومؤسسات المال. لم تسلم مهنة ولم تتورع طائفة ولم تنأ بنفسها جماعة. فالفساد الذممي والأخلاقي أصبح وباء في العالم، وفي وطننا.
كثير من هؤلاء، وبأشكال مختلفة من التعبيرات يعترفون بدور محدد في ما لحق من دمار، وموت، وتهجير، وسفك دماء، ببلدان عربية، وبشعوب عربية، سواء القريبة منهم أو البعيدة عنهم، سواء التي آذتهم، أو التي لم تؤذهم قط.
كل ذلك حدث والمجتمعات العربية تغط في النوم، أو تعاني العجز والشلل التاريخي، أو تغضّ الطرف لأسباب طائفية، أو قبلية، أو اقتصادية انتهازية، أو أمنية متوهمة.
ما يهمنا هو الإشارة إلى جانب بارز مشترك في كل قصص الأسرار، والفضائح، والاعترافات العربية. إنه الدور الكبير الذي لعبته المؤسّستان الاستخباريتان: الموساد الصهيوني، والاستخبارات المركزية الأمريكية. لقد كانت الجهتان حاضرتين في المناقشات، والتخطيط، والتمويل، والتنفيذ، واستقطاب المجانين. نحن إذاً، أمام عهد عربي جديد يتصف بالتخلي التام عن الاستقلالات التاريخية الوطنية والقومية، وعن الالتزامات القومية العربية المشتركة، عندما نشرك في أمور متطلباتنا الأمنية العربية، ومحددات علاقاتنا العربية والإقليمية مؤسستين لعبتا أدواراً إجرامية، أو تآمرية في تاريخ العرب الحديث، وفي طول وعرض بلاد العرب.
لسنا بحاجة لإثبات التاريخ الأسود للموساد الصهيوني. فتاريخه الدموي الجبان في اغتيال كل عالم، أوسياسي، أو مقاوم ميداني فلسطيني، أو عربي قاوم المشروع الصهيوني، معروف للجميع، وتمدده السرطاني الاستخباراتي في كل قطر عربي ينكشف بين الحين والآخر في هذه المدينة العربية، أو تلك. إنه مؤسسة رعب وإجرام لخدمة المشروع الصهيوني الاستعماري التوسعي في كل أرجاء العالم.
من هنا، فإن وضع يده في يد أية جهة عربية أمنية لا يمكن إلا أن يكون له هدف واحد: خدمة المشروع الصهيوني على المدى البعيد، إن لم يكن القريب.
لسنا هنا أيضاً بحاجة لسرد تاريخ مؤسسة الاستخبارات المركزية الأمريكية، فقد كتبت مئات الكتب عن ذلك، بما فيها اعترافات بعض مسؤوليها السابقين ممن استيقظت ضمائرهم فجأة، وحاولوا غسل أياديهم الملطخة بدماء الأبرياء بدموع التوبة والندم. إنها مؤسسة لإحداث الانقلابات في البلدان التي لا تخضع لواشنطن، لاغتيال قادة السياسة الذين يقاومون المصالح الأمريكية الاقتصادية والعسكرية عبر العالم كله، لبث حملات الأكاذيب، والتلفيقات، والمخاوف المتوهمة، حينما يراد إدخال أي رأي عام في أي مكان في عوالم التشويش والضياع، إنها لتمويل مراكز البحوث لاكتشاف أكثر الوسائل النفسية، والجسدية الحقيرة اللاإنسانية القادرة على انتزاع الاعترافات من المساجين كما فعلت، مثلاً في الخمسينات، عندما استعملت بحاثة من جامعة ما جيل الكندية الشهيرة ليقوموا بتجارب على مرضاهم النفسيين البريئين من أجل الوصول إلى أشنع وسائل التعذيب وغسل الأدمغة.
فهل حقاً أن مؤسسة تمارس كل أنواع الأنشطة اللا أخلاقية واللاقيَمية، عبر العقود وعبر العالم كله من دون استثناء، ينتهي الأمر ببعض العرب للتعاون معها وإشراكها لتلعب دوراً محورياً في إشعال حرائق الجحيم العربي في هذا البلد العربي، أو ذاك؟
يسأل الإنسان نفسه: لماذا حدث، ويحدث كل ذلك؟ لماذا وصل الحال ببعض العرب لأن يضعوا أيديهم في أيادي تقطر من أصابعها دماء الأبرياء العرب، وغير العرب، وذلك من أجل تسهيل نجاح صراعاتهم المؤقتة ضد بعضهم بعضاً؟
الجواب الأساسي المحوري هو: غياب المؤسسات القومية المشتركة الفاعلة التي يمكن اللجوء إليها لحل الخلافات العربية- العربية، من جهة، أو للوقوف ضد القوى الخارجية التي تستفرد بهذه الدولة العربية أو تلك.
لقد بحّت الأصوات وهي تطالب بوقف العبث بمقدرات هذه الأمة بسبب غياب المرجعيات السياسية العربية المشتركة. أمة تنتحر من دون أن تدري، وتخرج من التاريخ من دون أن يرفّ لها جفن، ويضحك العالم على قلة حيلتها، وانهيار إرادتها، وتخبّطها الأمني والسياسي والاقتصادي والثقافي من دون أن تقلق. 
أيها الشاعر المتنبي العظيم، اسمح لنا أن نذكّر أنفسنا، نحن الذين نشعر بفقدان توازننا في أجواء الجنون التي نعيش، بتشخيصك ونبوءتك القديمة: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.