راجح الخوري

 عندما قدّم سعد الحريري استقالته المُعللة في شكل واضح وصريح، من منطلق رفضه أن تستمر الحكومة اللبنانية، في سياسة الصمت والتعامي وإعطاء الغطاء الشرعي لتدخلات «حزب الله» في الدول الخليجية، التي وصلت كما أعلنت السعودية، إلى الضلوع في إطلاق الصاروخ الإيراني من اليمن على الرياض، كان ينتفض اعتراضاً على سقوط «التسوية السياسية» التي أنهت الفراغ الرئاسي، وقامت على أساس أن ينأى لبنان فعلاً بنفسه عن الصراعات المحتدمة في الإقليم، التي تؤججها التدخلات الإيرانية المتصاعدة.

هذه التسوية التي أراد الحريري إحياء مقتضياتها والتزاماتها عبر استقالته التي شكّلت بياناً اتهامياً صريحاً لإيران و«حزب الله»، سرعان ما تلقّت رصاصة في رأسها وتم دفنها، عندما أعلن الرئيس ميشال عون أنه يعتبر «الحريري مُحتجزاً وموقوفاً وحريته محددة في مقر احتجازه، وأن هذا اعتداء على لبنان وعلى استقلاله وكرامته»، هذا في حين كان وزير الخارجية جبران باسيل يجول في العواصم الأوروبية محاولا التأليب ضد الرياض.
لست أدري كيف تبخّرت تصريحات الأيام الماضية، عن أنه من المبكّر اتخاذ موقف، وأنهم ينتظرون عودة الحريري «ليبنى على الشيء بمقتضاه»، يبدو أن هذا المقتضى مَبني سلفاً وبالنَفَس السياسي الذي دفع الحريري إلى الاستقالة، أي الانحياز إلى إيران و«حزب الله» والخروج على أبسط قواعد «النأي بالنفس»، لهذا انتهت سياسة الصبر والانتظار ريثما يعود الحريري، الذي يكرر وبوتيرة يومية أنه عائد إلى بيروت خلال أيام للقاء عون وتقديم استقالته، والبحث في معالجة الأمور التي لم تعد تطاق.
عندما خرج الرئيس نبيه بري من لقائه مع عون بعد إعلان الاستقالة، قال إنه من المُبكر جداً اتخاذ موقف قبل عودة الحريري، ولكن سرعان ما تبيّن العكس عندما اتخذ عون موقفاً بهذه الحدة ضد السعودية، التي تنظر إلى لبنان على أنه «مقلة العين»، ويعرف معظم اللبنانيين مدى حرص الملك سلمان شخصياً ومحبته للبنان.
يردّ الحريري تكراراً: «أنا عائد يا جماعة أهل الخير»، فيقولون: «لا لا أنت محتجز»، لأن من مصلحة إيران و«حزب الله» القول إن السعودية تحتجز رئيس حكومة لبنان، رغم أن حسن روحاني لم يتردد قبل ساعات من استقالة الحريري، في القول إنه يحتجز القرار اللبناني، إذ لا يمكن اتخاذ قرار في دول المنطقة وبينها لبنان طبعاً دون إيران، هذا بعدما كانت طهران قد كررت مراراً أنها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية بينها بيروت، ولم نسمع من يتحدث لا عن الكرامة الوطنية ولا عن الاعتداء على السيادة!
«أنا عائد بعد أيام»، انتظروا «الشيء ومقتضاه»، «لا أنت رهينة إن عدُت، يجب أن تأتي عائلتك معك»، نعم إلى هذه الدرجة وصل إطلاق الصواريخ السياسية على السعودية بعد الصاروخ الإيراني على الرياض: «يا جماعة أريد ترتيب أوضاعي الأمنية، حيث إنني مهدد أمنياً على طريقة والدي رفيق الحريري»، «لا أنت مُحتجز وهذا عدوان من السعودية على لبنان».
منذ إعلان الاستقالة القنبلة في بيانها وتعليلها، بدأ التشكيك وتوجيه الاتهامات في وتيرة تصاعدية: «الحريري في الاحتجاز» رغم لقائه مرتين مع خادم الحرمين الشريفين، ومع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ورغم سفره إلى أبوظبي ولقائه الشيخ محمد بن زايد، واستقباله معظم السفراء الأوروبيين، وبينهم سفير فرنسا الذي قال صراحة الحريري يملك كل حريته.
كان من الواضح منذ لحظة إعلان الاستقالة، أن المطلوب هو التعتيم والتمويه على الأسباب الموجبة التي وردت في بيان الحريري أي استرهان لبنان إيرانياً، من خلال التركيز فقط على عودة الحريري إلى بيروت، وكان جلياً تماماً أن إثارة موضوع العودة بهذه الطريقة التي وصلت إلى حدّ اتهام السعودية بالعدوان على لبنان والذهاب إلى ضخّ هذه الاتهامات في العواصم الأوروبية، إنما يهدف إلى إجهاض جوهر أسباب الاستقالة.
وهكذا باتت عودة الحريري أهم من استعادة لبنان من الاحتجاز الذي لم يتحدث اللبنانيون عنه، بل تحدث المسؤولون في طهران وبمفاخرة واضحة، وبات المطلوب التعمية كلياً على الأسباب الموضوعية للاستقالة، وهي النكول بمبدأ النأي بالنفس عن الصراعات الخارجية رغم هوية لبنان العربية أصلاً!
المثير أن اتهامات عون للسعودية جاءت بعد ساعات قليلة من الزيارة التاريخية المهمة، التي قام بها لأول مرة في التاريخ البطريرك الماروني بشارة الراعي مع عدد من المطارنة إلى السعودية، حيث استقبلهم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمير محمد وسط حفاوة كبيرة، ما يتلاقى مع سياسة السعودية المُحبة للبنان واللبنانيين والداعية دوماً إلى الحوار بين الأديان.
السؤال في بيروت كيف يوجّه الرئيس عون هذه الاتهامات القاسية إلى السعودية، التي يعرف جيداً كيف أنها مدّت يد الأخوة والدعم إلى لبنان، وكيف كانت أكبر الدول المانحة للبنان ليس في مؤتمرات الدعم الدولية فحسب، بل بعد العدوان الإسرائيلي عام 2006، حيث كانت في مقدم من ساهم في إعادة الأعمار، وكيف أبدت دعمها إلى الجيش اللبناني بمبلغ أربعة مليارات دولار.
طبعاً ليس في وسع البطريرك الراعي أن يستوعب كيف أمكن عون توجيه كل هذه الاتهامات إلى السعودية، وقد جاءت تقريباً في وقت واحد، مع تصريحه في مأدبة أمير الرياض فيصل بن بندر بن عبد العزيز على شرف الوفد البطريركي الماروني، حيث قال إنه سمع من خادم الحرمين الشريفين والأمير محمد بن سلمان «نشيد محبة للبنان بكيانه وشعبه وأرضه، لبنان التعددية والتلاقي والمنفتح على كل الشعوب، ولبنان الحيادي، وأن الملك لم يتوقف عن الحديث عن لبنان، وعن رغبته في دعمه وتقديره الجالية اللبنانية التي تعمل في المملكة».
من حق البطريرك الراعي أن يتساءل ملياً لماذا الإصرار على القول إن الحريري في الاحتجاز، وخصوصاً بعدما كان التقاه في الرياض وقال إن اللقاء «كان حلو كتير» وأنه أبلغه بأنه سيعود إلى لبنان في أسرع وقت… وأنه مقتنع تماماً بأسباب استقالته.
الموقف لا يحتاج إلى شرح بعد كل هذا وبكل بساطة المطلوب هو التعمية على أسباب استقالة الحريري عبر تعمّد التركيز والنفخ في غبار عودته ومتى، بدلاً من التركيز على استعادة لبنان المخطوف والمحتجز وكيف، ومع ارتفاع الخشية من عودته لوضع النقاط السياسية على حروف الاستقالة النارية، انتقلت دائرة التركيز لتوجيه الاتهامات إلى السعودية التي قالت للتوّ لبطريرك الموارنة «لبنان مقلة العين».
لكن التاريخ بين البلدين محفور على صخر لا تمحوه أيام عابرة.