عبد المنعم سعيد

 

 

أفرجت الولايات المتحدة الأميركية عن عدد من الملفات الخاصة بأسامة بن لادن، جرى الحصول عليها خلال الغارة التي قامت بها وحدات خاصة على مقر زعيم تنظيم «القاعدة» في أبوت آباد - باكستان. وكان لافتاً للنظر ضمن هذه الأوراق أن الأصول الأولى للفكر الإرهابي الذي امتلك الرجل وهيمن على أفكاره، جاء من تلمذته على فكر جماعة الإخوان المسلمين، سواء تم ذلك من خلال قراءة الأدب المصري في هذا الشأن الذي صدر عن مؤسسي الجماعة وأعضائها، أو مباشرة عن طريق قادة الجماعة في اليمن. هذه القصة ليست استثنائية في تاريخ كبار الإرهابيين ومن بعدهم منظماتهم الإرهابية، فقد عملت جماعة الإخوان بمثابة «الحاضنة» والمدرسة الأولى التي يبدأ فيها الإرهابيون أولى خطواتهم نحو الفكر الإرهابي وتطبيقاته العنيفة. فقادة تنظيمات مثل الجماعة الإسلامية والجهاد في مصر خرجت من عباءة الإخوان الفكرية والعملية، ومن نجومهم كان أيمن الظواهري القائد الحالي لـ«القاعدة»، ومحمد عطا الذي قاد جماعة الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، وكذلك صاحب العقل المنظم للعملية كلها خالد شيخ محمد. ورغم أن البعض من هؤلاء الأفراد أو التنظيمات قد اختلف مع الإخوان فيما بعد، إلا أن الأصول الأولى للفكرة «الجهادية» كلها بدأت على يد المؤسسين لجماعة الإخوان سواء في تكوينها الأول (حسن البنا) أو تكوينها الثاني (سيد قطب). ورغم أن الثاني عُد دائما أباً لإرهابيي اليوم، فإن أصوله الفكرية تجد مكانها حيث بدأت الجماعة مع الأول في عام 1928.

 


فتح الحديث عن الجماعة الآن يعود بنا أولا إلى أصول الفكرة ذاتها؛ وثانيا أنه مهما حصلت تنظيمات إرهابية مختلفة على الصيت الكبير مثل «القاعدة» و«داعش» وغيرهم من وقت إلى آخر، فإن جماعة الإخوان المسلمين تظل المدرسة الكبرى التي تنتشر في 81 دولة من دول العالم، وهي التي نجحت في «مأسسة» عملها على المستوى الكوني ووضعه على أساس من استراتيجية ذات أبعاد مختلفة في زمن «الاستضعاف»، وأخرى مختلفة عنها في زمن «التمكين». في كلا الزمنين فإن آلية عمل الإخوان تأخذ أشكالا مالية واقتصادية وعسكرية أيضا. صحيح أنه في كل الأحوال فإن الوجبة الفكرية والعقائدية تظل واحدة وقائمة على أفكار «الحاكمية» و«السمع والطاعة» و«الجهاد» و«حتمية المواجهة مع الآخر» أو غير المسلمين؛ وكلها تستند إلى عقيدة جماعة «الخوارج». وباختصار فإن الانتصارات التي جرت إزاء تنظيم داعش في الموصل والرقة وقرب زوال هذا التنظيم لن يعني بالضرورة نهاية الإرهاب والفكر القائم خلفه، لأن الجماعة باقية وقادرة دوما على إنتاج إرهابيين جدد وتنظيمات جديدة.


التمييز بين «الاستضعاف» و«التمكين» يقوم أساساً على «توازن القوى»، وعندما يكون هذا التوازن في غير صالحهم، فإن الجماعة تظهر وجهاً معتدلاً متسامحاً. ويظهر ذلك بشكل واضح في شمال أميركا وأوروبا والدول الغربية عموما، حيث نجح الإخوان في أن يكونوا الممثلين للإسلام والمتحدثين باسم المسلمين. وفي الولايات المتحدة الأميركية يكاد الإخوان يسيطرون على جميع الجمعيات والروابط التي تتحدث باسم المسلمين، مثل المجتمع الإسلامي في أميركا الشمالية، ورابطة الطلبة المسلمين، والمجلس الإسلامي للشؤون العامة، ومجتمع المسلمين الأميركيين، ومجلس العلاقات الأميركية الإسلامية؛ وذلك فضلاً عن الجوامع والمراكز الإسلامية الرئيسية. هنا فإن الرسالة الإخوانية تكون مركزة على الديمقراطية تحت اسم الشورى، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والمساواة ورفض العنف والإرهاب. وهنا أيضاً فإن الإخوان عادة ما يخفون مواقفهم الحقيقية تحت عبارات مثل «بما يتواءم مع مبادئ الإسلام» أو «من دون إخلال بما هو معروف بالضرورة في الشريعة الإسلامية» وهي التي تستلب من المفاهيم السابقة جوهرها؛ لأن تفسير الإخوان للمبادئ ولما هو معروف بالضرورة يؤدي دوماً إلى قلب هذه المفاهيم رأساً على عقب. ومثل ذلك ظهر بقوة عندما جرى انتخاب الإخوان للبرلمانات المصرية، حيث كانت مواقفهم مناوئة للحريات المدنية، وللمساواة بين المواطنين، وقاهرة للمرأة في كل الأحوال.
ويعيش الإخوان دوماً وسواء في حالة «الاستضعاف» أو «التمكين» في إطار تنظيم حديدي شمولي مماثل للتنظيمات الفاشية والشيوعية من حيث البناء الهرمي والولاء المطلق للتنظيم و«السمع والطاعة» والسرية المطلقة. البناء يسوده «مجلس للإرشاد» و«مرشد عام» بسلطات مطلقة، و«مجلس للشورى» ينقل آراء الأعضاء إلى القيادة، وفي كل الأحوال فإن السرية هي الغطاء المحكم على أسماء الأعضاء، والتمويل، والحسابات البنكية. هذه السرية ظلت قائمة في مصر حتى بعد أن اكتسبت جماعة الإخوان صفة الشرعية في أعقاب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011. ومن السمات العامة للجماعة في كل الأحوال أن يكون لها ثلاث أذرع: مالية ودعائية وعسكرية. الذراع المالية ذات قدرات دولية تجمع الأموال من الأعضاء والاستثمارات الخاصة يستغل أعضاؤها في ذلك «العولمة» التي ربما يستهجنونها فكرياً، ولكنهم يستخدمونها لإخفاء الأموال وتحريكها حسب ما تقتضي الحاجة. والذراع الدعائية تبدأ من الشعار الخاص بالجماعة، الذي يظهر سيفين متقاطعين وبينهما المصحف الشريف وتحت كل ذلك كلمة «أعدوا». هذا الشعار يعكس رسالة الإخوان أنهم في حالة حرب دائماً، سيوف الجماعة مشهرة وأعداؤها قائمون في كل البلدان التي يعملون فيها بما يتطلب الإعداد المستمر للقوة المسلحة. ولكن دعاية الإخوان لا تتوقف على الشعار، وإنما تقوم على جهاز كامل من الاستخدام للصحافة والقنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والكتائب الإلكترونية في وسائل التواصل الاجتماعي ووكالات الأنباء ووسائل أخرى للحرب النفسية. أما الذراع العسكرية فإنها بدأت في مصر بما عرف «بالتنظيم الخاص» في عهد حسن البنا نفسه عندما جرى اغتيال رئيس الوزراء أحمد النقراشي والقاضي أحمد الخازندار وقائد أمن العاصمة القاهرة اللواء سليم زكي. سجل الإخوان بعد ذلك في استخدام العنف متواصل عبر العقود المختلفة سواء كان ذلك في مصر أو في دول أخرى تمكن فيها التنظيم وامتدت فروعه وتضخمت خزانته.


الإخوان هي الحاضنة الأولى والمدرسة الكبرى والعالمية للحركات الإرهابية كافة، وهي لا تكتفي بالدور التعليمي و«التبشيري» سواء من خلال دعاتها أو من خلال أدوات إعلامية متعددة، وإنما تقوم في ذات الوقت بالتعبئة لتأييد الإرهاب وتبريره وإلقاء اللوم على من يقاومه وفي كل الحالات فإن سقوط الإرهابيين يجعلهم «شهداء» تجب الصلاة عليهم، وتمجيد ما قاموا به من أعمال. وحينما تحين الفرصة، فإن الإخوان لا يترددون في ممارسة العنف بأنفسهم كما هو حادث في مصر الآن من خلال تنظيمات «حسم» و«أجناد مصر» و«العقاب الثوري» وغيرها من التنظيمات؛ أو من خلال تقديم العون المالي واللوجيستي لتنظيمات إرهابية أخرى. مقاومة الإرهاب والتطرف واستئصالهما يبدأ عند أصوله الإخوانية في الحركة والتنظيم والتعبئة والممارسة الحركية سياسية كانت أو دعائية. أسامة بن لادن وأيمن الظواهري لم يكونا أول من تخرج من مدرسة الإخوان، والمرجح أنهما لن يكونا آخر الخريجين!