رضوان السيد

 قال رئيس الجمهورية اللبنانية في كلمته إلى اللبنانيين عشية عيد الاستقلال «إنّ لبنان نأى بنفسه عن النزاعات العربية، ولكن للأسف الآخرين لم ينأوا بنفوسهم ولا بنفوذهم»! وكان يقصد بذلك واقعتين محددتين: استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من الرياض، وقرار الجامعة العربية شبه الإجماعي بإدانة تهديدات حزب الله «المشارك في الحكومة اللبنانية» للأمن العربي: في السعودية والبحرين والكويت واليمن.

والمعروف في الحالتين أنّ فخامة الرئيس ووزير خارجيته أطلقا حملة عالمية على واقعة الاستقالة من الرياض، بحجة أنّ الاستقالة ما كانت طوعية. وعندما جاء الأمين العام للجامعة العربية إلى لبنان لإبلاغ الرئيس بالقرار العربي، والطلب منه اتخاذ إجراءات لمنع العدوان بمقتضى مسؤوليته عما يجري على الأرض اللبنانية، وانطلاقاً منها، أنكر الرئيس ذلك كلَّه، وراح يدافع كالعادة عن «المقاومة»، وعن حقها في تحرير الأرض (!)، إنما أي أرض؟ أرض سوريا أو العراق أو اليمن أو البحرين أو الكويت؟! رئيس الجمهورية حامي الدستور والاستقلال والسيادة ما اعتذر مَثَلاً بالعجز عن إنفاذ الإجماع اللبناني منذ عام 2011 على النأي بالنفس وتحييد لبنان. بل على العكس من ذلك، إذ كان قد فَسَّر النأْي بالنفس بأنه: عدم التدخل في النزاعات بين الدول العربية! لكنْ حتى تفسيره هذا لا ينطبق على الواقعة الحاضرة، وهي النزاع بين العرب وإيران التي تتدخل لزعزعة الأمن والاستقرار في عدة دولٍ عربية على رأسها لبنان بالذات!


نعم، تدخل العرب في الشأن الداخلي اللبناني، لأنّ التنظيم المسلَّح المسيطر على الأرض اللبنانية - الذي كان رئيس الجمهورية الحالي هو أولُ مَنْ حاول إعطاءهُ الشرعية التي يفتقدها، في مواجهة القرارات الدولية (1559 و1680 و1701)، وفي مواجهة العرب جميعاً - ما يزال ينطلق من لبنان برجاله وأسلحته، وبإمرة الجنرال الإيراني قاسم سليماني، للضرب والتخريب في البلاد العربية، من بينها بلاد الحرمين!


نحن أمام واقعتين: واقعة التدخلات الإيرانية في أرض وأمن العرب عبر «حزب الله» والحوثيين وعشرات التنظيمات الأُخرى، وكلها لها علاقة بالحرس الثوري الإيراني والحزب - وواقعة التنكر من الاتجاه المعاكس للعرب وللمواثيق الوطنية اللبنانية والعربية والدولية بالإصرار على شرعية الحزب وتدخلاته، تارة لأنّ الرئيس والوزير محتاجان إليه في مواجهة إسرائيل بسبب ضعف الجيش. وتارة أُخرى لأنه قوة إقليمية مَهولة تعمل لصالح لبنان، ولن تنتهي مهمتُها إلاّ بانتهاء أزمة الشرق الأوسط!


سيادة لبنان إذن منيعة ومقدسة عندما يتعلق الأمر بالعرب. إنما كيف تكون مقدسة وعلى الأرض اللبنانية تنظيم مسلَّح يقول إنه يملك عشرات الآلاف من الصواريخ، ويسيطر على مناطق شاسعة لا تدخل إليها الدولة اللبنانية، بل وينشر ميليشيات مسلَّحة في المدن والقرى السنية، ويسيطر على المرفأ والمطار والحدود، بحيث لا يعرف أحدٌ غير السليمانيين ماذا يدخل إليها، وماذا يخرج منها (!). وبالأمس، وعندما كان الأمين العام للحزب يقول إنه ما تدخل باليمن ولا من اليمن أيضاً، بعد أن كان قد قال إن قتال السعودية من اليمن، أهم وأَولى من قتال إسرائيل - نعم بالأمس كان الرجل يقول إنّ قواته ستنسحب من العراق بعد الانتصار لتتمركز في ساحاتٍ أُخرى. وبالطبع فإنها لن تنسحب من سوريا، ولا من اليمن، لأنّ المهمات الكبرى ما تزال تنتظرها هناك! وما هي هذه المهمات غير القتل والتهجير والتطييف؟ ألا يعرفُ رئيس الجمهورية، وهو جنرال وكان قائداً للجيش أنّ هذه الفيالق الموجودة على الأرض اللبنانية، التي تعبُرُ من لبنان وإلى لبنان من دون حسيبٍ ولا رقيب، هي الإخلال الموصوف والفاقع بالسيادة، وليس شكوى دول شقيقة من أنّ أمنها مهدَّدٌ من لبنان بالذات؟ هل دفاع المملكة عن أمنها والشكوى من ذلك إلى «شقيق» تدخُّلٌ غير مأنوس، ووجود عشرات الألوف من الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة على أرض لبنان هو سمن على عسل وليس فيه إخلال بالسيادة؟!


ولندع هذه الاعتبارات جميعاً للحظات، ولنلتفت إلى ناحية أُخرى من نواحي الحرص على السيادة. كل اللبنانيين حريصون على الاستقرار في جنوب لبنان. ومنذ عام 2006 تاريخ صدور القرار الدولي رقم 1701، الذي أحلَّ قوات دولية لمساعدة الجيش اللبناني هناك، ينعُمُ جنوب لبنان بالأمن، وهو أكثر مناطق لبنان ازدهاراً بعد طول اضطراب. هل حرص رئيس الجمهورية الحامي للسيادة على ذلك؟ على العكس، قال مراراً لنا وللعرب والعالم إنه محتاجٌ إلى قوات الحزب في الجنوب بالذات! ولذلك فإنّ مجلس الأمن، وعندما كان ينظر قبل أشهر في التجديد للقوات الدولية بالجنوب، خفّض نفقاتها نحو ثلاثين في المائة، وخرجت أصواتٌ للمرة الأولى تقول إنّ لبنان ليس حريصاً أيضاً على تنفيذ القرارات الدولية وليس إسرائيل فقط!
هناك تسارُعٌ منقطع النظير للانضواء في المحور الإيراني. وفي ذلك إخلال باستقرار لبنان وأمنه وحرياته واقتصاده وقطاعه المصرفي وعلاقات العيش المشترك بين أبنائه. فإذا كان برنامج التيار الوطني الحر يريد الابتعاد عن العرب، ولو أدّى ذلك إلى إسقاط لبنان في العزلة والانكماش واستدعاء الأخطار؛ فإنّ السياسات الداخلية للتيار تعمل على الفصل بين المسيحيين والمسلمين، والاستيلاء على الوظائف العامة، وتدمير قطاعات الطاقة والقضاء والسياسة الخارجية؛ بحيث تنتهي ميزات البلد الصغير، الذي يصر الجنرال الرئيس على اعتباره مركزاً للحوار العالمي!
قال وزير الخارجية إنه بدبلوماسيته البالغة العرض والطول، حال دون أن يتخذ وزراء الخارجية العرب قراراتٍ أقسى ضد لبنان! وقد علمت من جهات عربية أنّ النصَّ الذي اعتمد في القرار، هو الذي وضعت مسودته اللجنة الرباعية، وما تغيرت فيه كلمة. العرب حريصون على لبنان كما كانوا دائماً، لكنّ سياسات الإدارة الحالية لا تُظهر حرصاً من أي نوعٍ على المصالح الوطنية:

أُريد حياته ويريد قتلي 
عذيرك من خليلك من مُرادِ